آتيكم اليوم وفي القلب غصّة لما يحدث في ربوع كنيسة…
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في صلاة الشكر، بخارست 28 تشرين الثاني 2014
صاحب الغبطة،
إخوتي وأحبتي،
ألا ما أحلى أن يجتمع الإخوة معاً.
عندما نبحث في ماضي كنيستنا الأنطاكية، نعثر في صفحاته عن بطاركة وأسلاف لنا زاروا بلاد الفلاخ. وها نحن اليوم على خطى الأجداد نكمل ذلك التسليم في هذه الزيارة السلامية. ونزور "بلاد المسيحيين" كما اعتاد أن يسميها البطريرك مكاريوس الثالث في القرن السابع عشر. وهذه التسمية إن دلت على شيء فإنما تدل على التقى والغيرة الرسولية التي عاينها مكاريوس وقتها والتي تلتمع إلى اليوم في وجه هذا الشعب الطيّب الذي لم تنل من غيرته صعوبات الماضي ولا مغريات الحاضر.
نحن سعداء يا صاحب الغبطة بأن نكون بينكم. نحن سعداء بأن نكون هنا حيث نحن، حيث تفصلنا مسافات الجغرافية ووحدتنا وتوحدنا الكأس المقدسة التي تذوب فيها كل فروق اللغة والتاريخ والعرق، وتنصهر نسغاً إيمانياً وغيرةً رسولية تنبض في عروق مؤمنينا سواء في أنطاكية أو في رومانيا.
فرادة التاريخ وفرادة الجغرافية جعلت للكنيستين الرومانية والأنطاكية دوراً مميّزاً.
الكنيسة الرومانية والمدى الروماني بشكل عام هو محط التلاقي والتلاقح بين الكنيسة المشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية. والحال الموازية في الكنيسة الأنطاكية والتي هي محط تلاق وتلاقح بين الفكر اليوناني الهليني والحضارة والمدى السرياني.
في رومانيا محط تلاق بين الغرب لغةً والشرق انتماء إيمانياً ومن هنا تسميتها عند كثيرين latinitas orientalis أي اللاتينية المشرقية، ومن هنا كان للكنيسة الرومانية دورها الأساس في الحوار الأرثوذكسي الكاثوليكي، وهي التي لم تلبث جسر تواصلٍ بين الغرب والشرق المسيحيين ولم تفقد لا بل صانت وحفظت هويتها المشرقية وبذور إيمانها وسقتها ونمّتها في أديارٍ ورهبنةٍ وآباء روحيين ورعاةٍ فاح ذكر أفضالهم حتى إلى كنيسة أنطاكية.
وفي أنطاكية أيضاً تزاوج فكري ما بين الهلنستية والسريانية. ومحط التلاقي هذا انجلى في كثير من المجالات ومنها على سبيل المثال لا الحصر علم التسابيح الكنسية (الايمنوغرافي). فرومانوس ويوحنا الدمشقي وكوزما وأندراوس وكثير من قدّيسي كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية هم أبناء المدى الأنطاكي الذين ترجموا لا بل زاوجوا بين الروح السريانية واليونانية، فخرجت صورهم الشعرية الروحية لتستوطن كتبنا الليتورجية إلى يومنا هذا، وتستوطن قلوب الأرثوذكس في كل العالم.
وقد عرفت الكنيستان الرومانية والأنطاكية تلك العلاقة القوية التي لم يفصم عراها البعد الجغرافي ولا الأزمنة الصعبة. فابتدأت العلاقة على أيام البطريرك الأنطاكي مكاريوس الثالث الذي زار رومانيا سنة ١٦٥٣م، وكرّس الكاتدرائية الحالية في بخارست.
وكان ذلك فاتحة لزيارات تكررت على عهد أثناسيوس الرابع وسلفسترس في القرن الثامن عشر لتكون بواكير لعلاقات امتدّت حتى ولا زالت حتى اليوم.
ولعل كلمات سلفنا أثناسيوس تختصر إلى حد كبير نظرة أنطاكية إلى أختها الرومانية في أوائل القرن الثامن عشر. ففي مقدّمة كتاب خدمة الكاهن المطبوع في رومانيا سنة ١٧٠١م نرى أثناسيوس يتوجه بامتنانه العميق لإخوة الإيمان طالباً من كل كاهن أنطاكي الصلاة من أجل الإخوة المحسنين في رومانيا. يقول أثناسيوس:
"إن بولس الطوباوي لما أرسل تيموثاوس قال نحوه. أتضرع إليك قبل كل شيء أن تصنع توسّلات وصلوات وتضرّعات من أجل جميع الناس أعني المؤمنين وغير المؤمنين. والأصدقاء والأقارب والأباعد. فكنيستنا المقدّسة بحسب هذه الوصية الرسولية قبل كل شيء تتضرّع وتتوسل إلى الله من أجل سلام جميع العالم وثباته وكافة كنايس الله واتحاد الكل بالإيمان والاعتراف الأرثوذكسي (أي المستقيم الرأي) بالله. فإذا كنا ملزمين أن نتوسل إلى الله مخلص العالم ونطلب منه من أجل الأعداء وغير المؤمنين بأن يرحمهم، فكم بالأكثر يجب أن نتضرع إليه ونطلب منه من أجل المؤمنين والمعارف والأصدقاء خصوصاً متى حصلوا محسنين إلينا ومسببين لنا هباتٍ عظيمةً مخلصة للنفوس. فكم يجب أن نتضرع إلى الله من أجل مثل هؤلاء المحسنين[1]".
ولعل من الجدير ذكره اليوم أن أوائل الكتب الليتورجية العربية كانت قد طبعت وكتبت بجهود القدّيس أنثيموس الإيفيرياني، وأوائل المطابع هي تلك التي قدّمت لأنطاكية الأرثوذكسية من قبل القدّيس الملك قسطنطين برنكوفيانو في أوائل القرن الثامن عشر.
ولا تزال الكنيسة الرومانية إلى عصرنا الحالي، لاتزال تقدّم العون الأخوي لكنيستنا، فكثيرون من الآباء في أنطاكية استفادوا مما قدم لهم من منح وأكملوا دراساتهم واغتذوا بالروح من معين الكنيسة الرومانية التي، وبشخص غبطتكم، تقدّم الرعاية الروحية للرعية الأنطاكية في بخارست، والتي نحييها اليوم ونتمنى لها دوام الخير.
صاحب الغبطة،
آتيكم اليوم وفي القلب غصّة لما يحدث في ربوع كنيسة أنطاكية. إلاّ أن غصّة الألم عندنا نكويها بوهج رجائنا بالرّب، وأمواج الظلمة الحاضرة نكتسحها بمرساة العزيمة وعتاقة الإيمان المختمر في نفوس مؤمنينا.
منذ أكثر من ثلاث سنين وسورية تدفع من دماء أبنائها ثمن الكرامة والسيادة. هي لا تدّعي أنها الدولة المثالية. وأنى لأحد في هذه الدنيا أن يدّعي مثالية الدولة في أي مكان. وقد أكّدنا ونؤكّد أن الحل فيها بالحوار سياسي وسلمي.
يكفينا شعارات معسولة، وليكن شعار كل الأفرقاء الآن عودة الأمان إلى كل شبر في سوريا. وهذا ليس بالمستحيل فنحن نذكر دوماً كيف كانت ربوع هذا البلد مرتعاً للسلام قبل ٢٠١١.
نحن لا نود أن نرى في ديارنا مرتعاً لإرهاب متنقّل لا يعرف حدود الدول.
نحن لم نعهد فيها ولا في أي بقعة من الشرق تكفيراً وخطفاً وتهجيراً للمسيحيين ولغيرهم. لم يكن مطارنة حلب يوحنا وبولس المخطوفان منذ أكثر من سنة ونصف وكهنتها إلا سفراء سلام في هذا العالم ومؤتمراته. فأين العالم ومؤتمراته ومحافله الدولية مما يجري في قضيتهم من تعتيم؟. أين العالم مما يجري في كل الشرق الأوسط من ويلات ليس أوّلها الأزمة في سوريا، ولا آخرها تدمير العراق والعبث باستقرار لبنان؟.
نحن هنا لننقل للعالم صورة ألمنا لما يجري في سوريا ولبنان والعراق وكل الشرق الأوسط.
نحن نتألّم أيضاً مما جرى ويجري في لبنان، ومن تعطيل لمؤسّساته الدستورية ورهن تلك الأخيرة بتوازنات الخارج، في حين أن ارتهانها الأوّل والتزامها الأوّل يجب أن يكون خدمة المواطن.
لكن شعورنا بالألم هذا ينمحق أمام ثقتنا بسيّد السماء الذي نضع تحت صليبه المحيي كل أوجاعنا لنتلقف كمريم والنسوة فرح القيامة المجيدة.
أرفع صلاتي في هذه الأيام المباركة من أجل سلام كل العالم. وأصلّي بشكل خاص أن يحفظكم الرّب يا صاحب الغبطة مع كل أخوتكم في رومانيا.
حفظ الله هذا البلد والقيّمين عليه.
حفظ الله سوريا ولبنان والشرق الأوسط.
وليكن طفل المغارة نبع عزاء لكم ولنا يا إخوتي، لأنّ من قبله "عين الحياة وبنوره نعاين النور"، وله المجد والرفعة إلى أبد الدهور، آمين.
[1] من مقدمة كتاب قنداق الكاهن المطبوع في رومانيا سنة 1701.