الكاهن والذبيحة والقدس وقدس الأقداس
الكاهن والذبيحة والقدس وقدس الأقداس:
* نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين في الإصحاح التاسع كلامًا وشرحًا عن القدس وقدس الأقداس:
"ثُمَّ الْعَهْدُ الأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَيْضاً فَرَائِضُ خِدْمَةٍ وَالْقُدْسُ الْعَالَمِيُّ، لأَنَّهُ نُصِبَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «الْقُدْسُ» الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَنَارَةُ، وَالْمَائِدَةُ، وَخُبْزُ التَّقْدِمَةِ. وَوَرَاءَ الْحِجَابِ الثَّانِي الْمَسْكَنُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «قُدْسُ الأَقْدَاسِ» فِيهِ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مُغَشًّى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِالذَّهَبِ، الَّذِي فِيهِ قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ الْمَنُّ، وَعَصَا هَارُونَ الَّتِي أَفْرَخَتْ، وَلَوْحَا الْعَهْدِ. وَفَوْقَهُ كَرُوبَا الْمَجْدِ مُظَلِّلَيْنِ الْغِطَاءَ. أَشْيَاءُ لَيْسَ لَنَا الآنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْهَا بِالتَّفْصِيلِ"(عب 1:5-5).
إذًا كان يوجد حجاب يفصل بين القسمين.
يشرح بولس الرسول كما الآباء الفدّيسون أن القدس يشير إلى العهد القديم، وقدس الأقداس إلى العهد الجديد.
الأول يخدمه كهنة كثيرون كلّ يوم، والثاني يشير إلى السماء لا يدخله إلاَّ رئيس الكهنة مرّة واحدة في السنة كرمز للسيّد المسيح الذي قدّم نفسه مرة واحدة ليدخل بنا إلى سمواته.
مما لا شك فيه أن لا الرسالة ولا أحد يتجاهل قدسية العهد القديم، إذ له فرائض خدمة من قبل الله، وفيه المنارة والمائدة وخبز التقدمة ... كما أنّه يحمل رموزًا وإشارات ونبؤات عن المسيح وخدمته :" وأمّا المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الاعظم والأكمل غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة الى الاقداس فوجد فداء ابديًا لانه ان كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس الى طهارة الجسد فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح ازلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من اعمال ميتة لتخدموا الله الحي". (عب 11:9-14)
ولكن كيف لنا أن نفهم بشكل جيّد وصحيح كلمتي قدس وقدس الأقداس ونترجمهما في حياتنا اليوم؟
بالأساس كلمة قدس تأتي من الكلمة العبرية " قَدوش Kadosh" التي تعني الفرادة والتخصيص والفرز، وهي مرتبطة بالله الذي لا منازع له ولا شبيه له ولا مماثل.
ومنها تأتي كلمة قُدّوس وقدّيس ومقدّس.
من هنا أجاب الله عن اسمه عندما سأله موسى النبي:" أهيه أشير أهيه" والتي تعني " أنا الذي أنا " أي الذي ليس له مثيل ومشابه لكي يكون له اسمًا لنفرّقه عن غيره. فهو الكائن من ذاته وهذا معنى يهوى أّي فعل الكينونة.
شروحات:
- إن كان القدس يشير إلى خدمة العهد القديم، فإن قدس الأقداس يشير إلى الحياة السماوية التي قدّمها لنا الرّب بعهده الجديد معنا. لذا يشرح القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنّه لا بد من أن ينشق الحجاب ويزول الظل بظهور الحق ذاته، وتكتمل الخدمة الموسوية أمام الهيكل الجديد: "مُعْلِناً الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَذَا أَنَّ طَرِيقَ الأَقْدَاسِ لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ، مَا دَامَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ، الَّذِي هُوَ رَمْزٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ، الَّذِي فِيهِ تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ الَّذِي يَخْدِمُ"(عب 8:9-9).
ويكمل فيقول عن عبارة " الوقت الحاضر" انّها تعني زمن ما قبل مجيء المسيح، وخدمة الناموس، فإنه بعد مجيئه لا يكون بعد الوقت الحاضر، إذ كيف يمكن أن يوجد الوقت، وقد جاء وانتهى وحل ملء الزمان؟
.الله أصبح إنسانًا ورفعنا إلى ما فوق الزمن ودخل بنا إلى السمويات
- يقارن الرسول بين ذبائح العهد القديم وذبيحة العهد الجديد، ففي الناموس الموسوي يقدّم الكهنة دم تيوس وعجول ... مرشوش على المنجسين يقدّس إلى طهارة الجسد، أمّا كاهن العهد الجديد فيقدّم دم نفسه. "وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ؟!"( عب 12:9-14).
- في القديم يقدّم دم حيوانات تقاد للذبح بغير إرادتها، أما في العهد الجديد فقدّم رئيس الكهنة نفسه تقوده إرادته الحرّة وطاعته لأبيه حتى الموت موت الصليب وحبّه للبشرية وهي بعد تعاديه! إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت.
- خدمة الوقت الحاضر تركّز على تطهير الجسد(عب13:9)، أما الثانية وهي خدمة ما فوق الزمن الحاضر، خدمة السماء، فتمسّ الضمائر وأعماق النفس الداخلية، أي خدمة الروح الفعّالة التي تقيم ملكوت الله في داخلنا.
الأولى تقوم على دم حيوانات تموت وتُستهلك، أما الثانية فتقوم على دم ابن الله الذي بروح أزلي قدّم نفسه، ولا يمكن للفساد أن يمسك به ولا للموت أن يحبسه، واهب حياة وقيامة!
الأولى يقوم بها كهنة تحت الضعف، محتاجون إلى تكفيرعن خطاياهم، أما الثانية فيقوم بها من هو "بلا عيب"(عب14:9)، قادر أن يقدّسنا!
- الهيكل الجديد يكّمل بناء الهيكل القديم: يشرح بولس الرسول في رسالته إلى اهل أفسس فيقول:"الذي فيه كلّ البناء مركبًّا معًا ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب، الذي فيه أنتم أيضًا مبنيون معًا مسكنًا لله في الروح" (أف ٢ : ٢١، ٢٢).
- يقول القدّيس أثناسيوس الكبير في مقارنته بين الهيكل القديم والهيكل الجديد أييّ جسد الرّب فيقول: كان الهيكل القديم مقامًا من حجارة وذهب كظل، لكن إذ جاءت الحقيقة بطل الرمز.
ويكمل: " من يحتقر الهيكل يحتقر الرب الذي في الهيكل، لمن يفصل الكلمة عن الجسد يجعل من النعمة التي وهبت لنا فيه لا شيء. لا تقبل افتراض الأريوسيين (الذين رفضوا ألوهة المسيح أي تجسد الله واعتبروا المسيح مخلوق) بأنه ما دام الجسد مخلوقًا فالكلمة أيضًا مخلوق، ولا القول بأنه ما دام الكلمة غير مخلوق فجسده مزدرى.
لكن، إذ الكلمة هو الخالق، الذي صنع المخلوقات، لهذا ففي نهاية الدهور لبس المخلوق (الجسد) لكيما يقدّس الخليقة وإنّما الخالق ليشفيها. فالخليقة لا يمكن لها أن تخلص بواسطة مخلوق، كما أنها أُوجدت بواسطة الخالق.
- في العهد الجديد تقدّم إلينا السيّد متجسدًا، مقدمًا لنا جسده كسرّ تقدّيس لنا، ففيه نختفي، وبه نتّحد، لنحمله في داخلنا كما نحن فيه ... هذا هو "وَقْتِ الإِصْلاَحِ" (عب10:9). لا إصلاح إلّا بإتّحادنا فيه!
- وراء الحجاب يختفي قدس الأقداس الذي فيه مبخرة من ذهب وتابوت العهد ممثّل الحضرة الإلهية، مغشى من كلّ جهة بالذهب إشارة للاهوت، فيه قسط من ذهب فيه المن إشارة إلى المن الحقيقي جسد الرب ودمه الأقدسين، وعصا هرون علامة كهنوت الرّب ورعايته الشخصية لكنيسته، ولوحا العهد إشارة إلى كونه كلمة الله، وفوق التابوت كاروبان يظللان الغطاء علامة دخولنا إلى الإتّحاد مع السمائيين في المسيح يسوع ربنا.
ففي بداية الرسالة العبرانيين " الله بعد ما كلّم الأباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ... الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الاشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي"
العهد القديم يحمل في طيّاته العهد الجديد، بل هو ظل له وهو رمز له، وبالعهد الجديد اكتمل العهد القديم. فالله له فكر واحد وكلمة واحدة.
فكل التشريعات الناموسية بقيت ناقصة غير قادرة على الوصول بالضمير لحالة الرضا الكامل (عب1:10-4) . من هنا تشرح الرسالة كيف تنقلنا المسيحية من الناقص إلى الكامل، من التطهير بدم الذبائح إلى تقديس القلب والضمير بالروح (عب5:10-10).
فمثلًا القانون الجنائي يمنع القتل، ولكنه لا يستطيع أن يصل لمنع البغضة والكراهية من القلب.
إذًا الوحي الإلهي يتدرّج في أخذه بيد الإنسان ليمتّد إلى أعلى ويترقّى (عب9:9-11) لذلك قال المسيح "ما جئت لأنقض بل لأكمل" .
ملاحظات:
- كُتبت رسالة العبرانيين والهيكل على وشك الخراب والضيقة الكبيرة وذلك قبل السنة 70م أيّ حوالي 63م (حصار الرومان وهدم أورشليم والهيكل وإبادة مئات الألوف من الشعب اليهودي على يد تيطس الروماني)
- إنها رسالة تعزية وتشجيّع. فهي تظهرعظمة المسيح، ومن يعرف حقيقةّ الرّب يسوع المسيح لا ترهبه الآلام ولا الاضطهادات ولا يخاذل ولا يرّتد.
- الرسالة تعلن بوضوح أن المسيح هو الله (عب 1:8) "وأما عن الابن كرسيك يا الله" ، فهو أعلن صراحة أن النبوة التي قيلت عن الله هي منطبقة على الابن.
خلاصة:
إذا كانت كلمة عبرايين مشتقّة من فعل عبر أيّ الذين عبروا بقوّة الله البحر الاحمر، فكل من يؤمن بيسوع ويلتصق به يعبر من بحر الدم والشر في هذه الدنيا إلى محيطات نعم ورجاء وسلام وطمانينة لا تنتهي ولا حدود لها.
هذا ما حدث لحظة موت يسوع على الصليب، فقد انشق حجاب الهيكل لانّه قد تمّ كلّ شيء، وعبرنا معه من القدس إلى قدس الأقداس وبات الملكوت مفتوحًا لكل من يشتهيه ويعمل بكّدٍ وجهدٍ لدخوله.