القدّيس أرسانيوس الكبير
ولادتُهُ:
وُلد القديس أرسانيوس، حوالي العام 354م، في عائلة رومانية امتازت بنبلها وغناها. برع في العلوم حتى أضحى أحد أبرز علماء إيطاليا، في زمانه، في اللغة اليونانية واللاتينية وبقيَّة العلوم.
ذاعت شهرته حتى بلغت أسماع الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير، فاستقدمه إلى القسطنطينية ليكون مربِّياً لأولاده. وصل إلى القصر الملكي في حدود العام 383م. كان قد بلغ التاسعة والعشرين.
بدا أرسانيوس، في القصر، وجهاً بارزاً، يتزين من الأزياء بأفخرها،وله من الأثاث أفخمه. وكان، إلى ذلك، يتعطَّر من الأطياب بأثمنها، وله في خدمته ألف من الخدم يرفلون بأثوابهم الغنيَّة. وقد جعل الإمبراطور أرسانيوس في رتبة الشيوخ وأعطاه لقب البطريق، بحسب ما ذكر القديس سمعان المترجم.
رفضُهُ مجد وأباطيل العالم:
كان أرسانيوس من وقت إلى آخر يعود إلى نفسه ويفطن أن رفعته وغناه كانا عابرين وأن الجميع، في نهاية المطاف مجبرون على إخلاء مواقعهم. إذ ذاك لا يأخذون معهم سوى أفعالهم. وكانت النعمة الإلهية إلى هذه المعاينة الداخلية، تحرَّك فيه خوفاً شديداً على خسران نفسه. ولذا كان يلقي بنفسه عند قدمي الله ويذرف الدموع ويرفع الصلاة سائلاً إيَّاه بصدق كبير أن يعرفه بما عليه أن يفعله ليخلص. ويبدو أنه ثابر في هذا المنحى إلى أن حظي من إلهه بنعمة أخرجته من مخاض الرهبة والتساؤل إلى ولادة جديدة للتوبة. فذات يوم، إذ كان يطرح على رَّبه همَّ قلبه بدموع وتوسلات، إذ به يسمع صوتاً يقول له: "فرّ، يا أرسانيوس، من صحبة الناس فتخلص". اقتبل أرسانيوس كلام الله، فقام سرَّاً وارتحل. سافر في سفينة إلى الإسكندرية ومنها انتقل إلى بريَّة الإسقيط ليقبل حياة التوحد. عمره كان حوالي الأربعين. إذ كانت السنة في حدود 394م.
اقتباله حياة التوحد:
في بريّة الإسقيط تعرَّف أرسانيوس على الأب يوحنا القصير، الذي تتلمذ عليه. وتلقَّن منهُ فروض الحالة الجديدة التي جعل نفسه فيها. فحقق في فترة قصيرة، طريق الكمال وفاق بتجلده على أفعال التوبة، كبار شيوخ البريَّة, وكذلك بصبره وشجاعته وتصميمه على مواجهة الأهواء، وإبليس. وكما كان مميزاً بعلمه في العالم، بات في البريَّة مميزاً بتواضعه وتشدده على نفسه. كل هذا جعل أباه الروحي يتبين عمل الله فيه فلم يستبقه طويلاً وتركه يذهب ليتعلم على حدة وحده.
متوحِّداً ناسكاً:
توغَّل أرسانيوس في البريَّة ليتسنى له أن يكون بمنأى عن خلطة الناس كما طلب منه الله، لازم قلايته، التي كانت مغارة ولم يغادرها. كان يتجنب الزائرين. ويقضي معظم وقته في الصلاة ووجهه متجه نحو الشرق ويداه متجهتان نحو السماء. كان محارباً صنديداً لأهوائه، صواماً، لا يترك نفسه ترتاح من دون تضرع إلى الله السماوي. كانت الدموع رفيقةً له. حتى حين يعمل في شغل الأيدي، لم يكن استغراقه في الإلهيات لينقطع. كان مأخوذاً أبداً بحضرة الله. لهذا السبب كان دائماً ما يستعين بمنديل ليمسح دموعه المترقرقة من عينيه، أثناء العمل وخارج أوقات العمل. سواء بسواء. ذكرُ الموت كان حاضراً لديه دائماً. صرامة أحكام الله في عينيه كانت تزيده رعدة مقدَّسة.
رقادُهُ:
لما دنت ساعة موته قال لتلاميذه، ومنهم دانيال، ألا يجمعوا حسنات عنه بعد موته، إذ أراد أن يحتفَّ به الفقر في حياته وفي موته معاً. فقط طلب أن يُذكر في الذبيحة الإلهية حتى إذا ما كان قد صنع صالحة في حياته وجدها لدى رَّبه. كذلك أوصاهم ألا يعطوا شيئاً من جسده ليُحفظ بمثابة رفات مقدَّسة. وهدَّدهم إن خالفوه اشتكى عليهم لدى منبر الله. عاش في التواري طويلاً. كذلك طلب أن يربطوا رجليه بحبل ويُجرِّوه إلى الجبل ليدفنوه هناك.
ولما بات مستعداً للموت أخذ يبكي فاستغرب تلاميذه وسألوه: "لِمَ تبكي، يا أبانا؟ أأنت أيضاً تخشى الموت كباقي الناس؟" أجاب: "أجل، من دون شك، وهذا الخوف لم يفارقني منذُ أن توحدت".
بمشاعر الاتضاع هذه أسلم الروح مكمَّلاً بالفضائل بعدما بلغ الخامسة والتسعين. سنة رُقاده، كما يحسبها الدارسون، هي بين العامين 449- 450م.