عظة صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر في قدّاس…
عظة صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر في قدّاس عيد الصعود في الكاتدرائية المريمية - دمشق
عيد الصعود ٢٠١٤
يا أحباء، صلينا اليوم هذه الصلاة بعيد الصعود الإلهي، ورتلنا: «صعدت بمجدٍ أيها المسيح إلهنا، وفرحت تلاميذك بموعد الروح القدس، إذ أيقنوا بالبركة أنك أنت هو ابن الله المنقذ العالم».
ما أرغب بالوقوف عليه أمام محبتكم يلفت النظر، إذ تقول الترتيلة: «صعدت بمجد أيها المسيح إلهنا، وفرحت تلاميذك بموعد الروح القدس»، لأن الرب يسوع وعدهم أن الله الآب سيرسل الروح القدس، وهذا موضع فرح بالنسبة لهم؛ لكن ما يلفت النظر هو في آخر الترتيلة: «إذ أيقنوا (الرسل) بالبركة (عن المسيح) أنك أنت هو ابن الله المنقذ العالم».
ما الذي يلفت النظر؟ كلمة أيقن هي ما يلفت النظر، لأنها تعني: تأكد، وتبرهن، وتثبّت. ولكن عادةً عندما نقول إن الشخص تأكد أو تبرهن له أو أنه أدركه فهذا يتم بالعقل. ولكن هنا تقول الترتيلة: «إذ أيقنوا بالبركة»، ولم تقل: إنهم أيقنوا بعد تفسيرٍ أو شرحٍ أو عملٍ يتم بواسطة العقل. وعبارة «إذ أيقنوا بالبركة» مستقاة من الإنجيل الذي سمعناه، لأن الرب يسوع ظهر لتلاميذه بعد قيامته، وهم فرحوا جدًّا، ولكن كانوا كأنهم غير مصدقين ومتعجبين فيما إذا كان الظاهر لهم هو يسوع الذي قام من بين الأموات. ولما صعد من بينهم إلى السماوات، يقول الإنجيل كما سمعنا: «وفتح يديه وباركهم» (لو 24: 50). باركهم، فأيقنوا وأدركوا وتأكدوا وعرفوا أن هذا هو يسوع المعلم، تأكدوا أن هذا هو يسوع المسيح السيد الذي قام من بين الأموات.
وهذا ليس غريبًا، ومن المهم بشدةٍ أن نؤكد عليه، أن الرب يسوع عندما ظهر للتلاميذ لأول مرة، كانوا في حالة شك فيما إن كان هو أم لا! فقال لهم: جسّوني والمسوني، وأعطوني لآكل؛ أنا هو (لو 24: 39). وقال لهم: هذا ما كُتب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير (لو 24: 44). ويقول الإنجيل بالحرف: «فتح أذهانهم ليفهموا الكتب» (لو 24: 45). فتح أذهانهم، وأدركوا حينها أن هذا الذي كُتب عن السيد قد تحقق، وأنه تألم وصلب وقام من بيت الأموات، وأنه سيرسل لهم المعزي، وقال لهم: «امكثوا في أورشليم حتى تلبسوا قوةً من العلاء (الروح القدس الذي سيحل عليكم)» (لو 24: 49)، وآنذاك ذهبوا فرحين.
نعم، «فتح أذهانهم ليفهموا الكتب». ماذا يعني هذا؟ يعني أن علاقتنا مع الله يا أحباء، وحتى الكتاب المقدس، ليست أموراً نفهمها بعقلنا. لم يكن التلاميذ مدركين بشكل كامل لكل ما كان مكتوبًا عن المسيح في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. فـ «فتح أذهانهم، ليفهموا الكتب» وليدركوا الحقيقة بالإيمان والبركة.
كلمة «أذهانهم» هنا دقيقة بالترجمة حتى عن اللغة اليونانية الأصلية للإنجيل، حيث هناك فرق بين الذهن والعقل. فالعقل يُقصد به المقدرة العقلية في دماغ الإنسان الذي بواسطته يفكر ويحل المسائل الرياضية ويخترع وما إلى هنالك. أما الذهن فهو كيان الإنسان الداخلي، هو القلب، وبهذا الذهن نتصل مع الله. نحن لا نتصل مع الله بالعقل البشري. لا نستطيع أن ندرك الله بعقلنا البشري. لذلك يقول: فتح ذهن كل واحدٍ منهم، أي كيانه الداخلي، وقلبه من الداخل، حتى يستطيع أن يفهم ويدرك ما كُتب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير عن السيد المسيح.
لذلك، نرجو في يوم صعود ربنا إلى السماوات من أجل خلاصنا، ونحن نصلي هذه الصلوات، أن نتقبل هذه العطية، أي كما فتح أذهان التلاميذ أن يفتح أذهاننا كلنا، وأن يقبل كل واحدٍ منا أن يفتح ذهنه وداخله وقلبه وكيانه وكل مشاعره وحواسه للرب حتى نعيش جميعنا هذه الحقيقة الإلهية أن السيد قد قام من بين الأموات، وصعد إلى السماوات، حتى يدوس الموت، وحتى نغلب، كلُ واحدٍ منا، بالسيد الظافر من بين الأموات؛ وهكذا يكون اسمه ممجد ومبارك إلى الأبد آمين.