عظة صاحب الغبطة في قداسه الأول في الكنيسة المريمية

2012-12-23

"أنطاكيةُ رعايةُ الروحِ ومحبةُ الله والبشر"

مقدّمة

أنطاكيةُ يا مدينة الله! فيك دُعي التلاميذ أولا مسيحيين.
أنطاكيةُ اسمٌ أوسعُ من مدينة، وشهرةٌ لا تعرف حدود. فَمنْ يا ترى لا يعرف مدرستَها وقديسيها وعالمَها الساحرَ قبل ألفي عام ونيف. ومَنْ لا يعوّل الكثيرَ على أنطاكيةَ ومؤمنيها؟
قد لا يبالغ المرءُ إذ يقولُ إنَّ للمسيحيةِ مهدان. المهدُ الأولُ جسديٌّ وهو أورشليم حيث وُلِدَتْ المسيحيةُ للشعب العبري في حدود فلسطين. أما المهدُ الثاني ففكريٌ وهو في أنطاكية حيث وُلدتِ المسيحيةُ للعالمِ كلِّه.

1.  العالمية

كانت أنطاكيةُ مدينةٍ جامعةٍ شاملةٍ تقاطعت فيها الحضاراتُ وتلاقحتِ الثقافات. في أنطاكيةَ عَرفتِ المسيحيةُ الحديثةُ المولدِ أنذاك التحديَّ الأعقدَ والأخطر في تاريخها. إنهُ تحدي الهوية الدينية. كان على الكنيسة في أنطاكيةَ أن تُحدِّدَ هُويتَها ومُستقرَّها إما كديانة محليةٍ قومية، فتكونُ بذلك استطالةً لليهودية، أو أن تنتقلَ إلى جادةِ الشمولية الكونية. وقد انتصرت أنطاكيةُ في هذا التحدي فكانت أنطاكيةُ وعاءً طارداً تَصبُّ فيه الثقافات والحضارات فيطرد البَخِسَ ويستقبلُ الثمين. فَهِمَت كنيسةُ أنطاكية أن المسيحية رسالةٌ إلهية لا تقومُ إلا على الكونية. وهي رسالةٌ تتجددُ اليومَ في زمنِ العولمةِ والعالَميَّةِ والرحاب الواسعة.

2.  الدين للإنسان وليس الإنسان للدين

لذلك كان من الطبيعي أن تكونَ ثمرةُ هذا الجَهدِ السابقِ قيمةً عُليا هي "الإنسان". لقد تمحور الفكرُ الأنطاكي حولَ الإنسان. فبعدَ أن خَدمَ الإنسانُ في الوثنيةِ الآلهةَ، جاءتِ الحضارةُ الهلينستية لتجعلَ مِنَ الانسان خادماّ لذاتهِ، أما في أنطاكيةَ الروحِ فوُلِدتِ العقائدُ الأنثروبولوجيّة التي جَعلتِ الإنسانَ مُستَقَّرَ عَملِ اللهِ وغَايةَ خَلقِهِ "فصارَ اللهُ خادماً للإنسان إذ تأنسَ الله ليتأله الإنسان". وسيبقى الإنسانُ في أنطاكيةَ مِحورَ الخدمةِ والرعاية. فالكنيسةُ الأنطاكيةُ مشرِقيةُ الأصلِ والموطنِ. وفي المشرقِ لا تتبدلُ قيمةُ الإنسان بل هو الذي يبدِّلُ كلَّ قيمةٍ أخرى.
لقد انتقلتْ أنطاكيةُ بالدّينِ من المفهومِ الكلاسيكي إلى المفهومِ الديناميكي الذي يقوم على رعايةِ الإنسان. فتمخَّضَ الفكرُ الأنطاكيُّ الكتابيُّ عن روحٍ جديدةٍ في الرعاية. روحٍ تلتزم شؤونَ الأرضِ والناس. ليس الدينُ موضوعاً للتأملِ بل هو قوةُ تحوّلٍ، قوةٌ تُبَدِّلُ المسلَكية فتحوّلُ الدينَ إلى مَسلَكيةٍ روحيةٍ تُسَكِّنُ آلامَ المرضى وتُعزّي قلوبَ المنكسرين وتُطعمُ الفقراءَ خُبزاً. لا بل حتى إن الرهبنات التي وُلدتْ في أنطاكية عُرِفَت بأنها الأقسى ولكنها الأقربُ إلى الناس. فالعموديون علّوا العمودَ طلباً للنسكِ من جهة، ولكنْ أيضاً ليوسّعوا دائرةَ البشارةِ مِنْ على العمود باتساعِ الآفاق. إنها عودةُ الواصلِ إلى الله، يُرسلُهُ إلى الناسِ من على عمود الحب.

3.  الأديانٌ طرقٌ للتلاقي الأخلاقي

لما صار الدينُ قوةَ تصوُّرٍ بالله، صار على الناسِ جميعاً أن يلتقوا عند الله، يتشابهون في التقوى وأفعال المحبة.
عَرفتْ كنيستنا الأنطاكيةُ عبرَ التاريخِ أن تعيشَ مع الآخَرِ المسيحي، ومع الآخَر المسلم، فأعطتهُ وأخذت مِنهُ، عاشت لهُ كما لذاتها. كنيستُنا المشرِقيةُ كنيسةٌ تحترمُ التعدديةَ وقد نجحت في التاريخِ بمحبةِ الآخَر واحترامه.
إنها كنيسةٌ منفتحةٌ على كل لونٍ وعلى كلِّ مَسعىً خيّر، مسعىً له فرادةٌ في العلاقات المسيحيةِ المسكونية، سنعمل إلى تنميتها، وله فرادةٌ في العلاقات مع المسلمين. إنها الكنيسةُ المسيحيةُ الناطقةُ بالعربيةِ والأقربُ إلى فَهم المسلمين ومخاطَبَتِهِم واحترامِ تقواهم.
أنطاكيةُ كنيسةٌ مَشرِقيةٌ بقيمٍ عالَميةٍ وإنسانيةٍ، إذ عندما ترى الآخرَ بأشكالٍ عديدةٍ، ترى فيهم جميعاً الصورة الوحيدة: "الإنسان" أياً كان!
أنطاكيةُ رسالةٌ مَسيحيةٌ بمزايا إنسانيةٍ عالَمية، فيها الإنسانُ هو غايةُ الأديان. أنطاكيةُ روحٌ نحمِلُها ونخدِمها ونُخلِصُ إليها، إنها على صورة الله: "محبة"!
مَنْ هي أنطاكية؟ إنها البشرى! بشرى المحبةِ والتلاقي والروح. "إني أبشركم بفرحٍ عظيم". هذه هي بشرى الميلاد ومنها تتأتى بُشرى أنطاكية: بِشارةٌ، رِعايةٌ، محبةٌ وتلاقٍ!

آمين