فَمَنْ يَفحَصُ كَثْرَةَ خَطاياي

2013-04-30



عظة صاحب الغبطة يوحنا العاشر في صلاة الختن الثالثة - البلمند

أيّها الأحبّاء، هذه الصَّلَواتُ الّتي نُقيمُها في الأسبوعِ العظيم لَـهِيَ بَرَكَةٌ فوقَ بَرَكة، ونِعمةٌ فوقَ نِعمة. إنّها تَزِيدُنا تَـخَشُّعًا على تَـخَشُّع، وانسحاقًا فوقَ انسحاق. وأمّا هذه التّرتيلةُ  الّتي سَمِعناها "يا رَبّ إنّ المرأةَ الّتي سقطَتْ في خطايا كثيرة..." فتَسمُو بِنا إلى ذُروةِ التَّوبَة.

IMG_4375 copyبعد الذي سمعناه، والألحان، والكلام المؤثِّرِ الذي يَـجعلُنا نتَّضِعُ ونتخشَّعُ أمامَ العرشِ الإلـهيّ ونعودُ إلى أنفسنا، لا يبقى كلامٌ بشريٌّ يُمكن أن يقال. إلّا أنَّني أودُّ أن أُعَلِّقَ قليلًا على هذه التّرتيلة، لأُخبرَكُم عن مناسبةِ كتابتِها.

كانت في القسطنطينيّة في القرن الرابع راهبةٌ تُدعى كَسياني، معروفةٌ بِعِلمِها وأَدَبـها ونَظْمِها للتّسابيح، متعلّمةٌ مثقّفة، من عائلة كريمة.

وكان العرفُ في تلكَ الأيّامِ أنَّ وَلِيَّ العهدِ عندما ينوي الزّواج، يُعَمِّمُ الخَبَرَ في كافةِ أنحاءِ الإمبراطوريّة، والفتاة الّتي تَرى نفسَها أهلًا لأن تكونَ زوجةَ الإمبراطورِ القادِم، تأتي في يومٍ معيَّنٍ إلى القصر. فتجتمع الفتياتُ، ويـختارُ منهُنَّ وَلِيُّ العهدِ الّتي تُعجِبُه.

ووَصَلَ الخَبَرُ إلى كسياني الرّاهبة، ففكَّرَتْ في تقديمِ نفسِها عَروسةً للإمبراطور القادم، فإذا حالَفَها الحَظّ وأصبحَتْ زوجةَ الإمبراطور، يكون في وُسعِها مساعدةُ الكثيرين من الفقراء والمحتاجين، وكذلك مساعدة الأديرة والكنائس.

صَرَّحَتْ بِفِكرِها لرئيسةِ الدَّير، وأصرَّت عليه. فما كانَ منها إلّا أن خلَعَتِ الثَّوبَ الرُّهبانيّ، وذهبَتْ في اليوم المحدَّدِ إلى القصر  وانضمَّتْ إلى باقي الفتياتِ اللواتي ذهبن لأجل الحدث.

أتى ابنُ الإمبراطور الشابّ، وأخذ يتأمّلُ بِكُلِّ فتاةٍ منهُنَّ إلى أن وَصَلَ إلى كَسياني. كان حاملاً وردةً بِيَدِهِ لِيُقَدِّمَها لِلفتاة التي سيَختارُها. اقتربَ من كَسياني وقال لها: "أَتَعلَمِين أنَّ المرأةَ هِيَ سَبَبُ الخطيئةِ والسُّقُوط؟" (قاصِدًا حَوّاء)، فأجابَتْ: "نَعَم يا مَولاي، لكِنَّ المرأةَ أيضًا هِيَ سَبَبُ الخلاص" (قاصِدةً العذراءَ مريم). فَاستاءَ ابنُ الإمبراطورِ منها لأنّها تَفَوَّقَتْ عليه، فتركَها وذهبَ إلى فتاةٍ أُخرى لِيَسأَلَـها السّؤالَ نفسَه. فأجابَتْه: "نَعم يا صاحب الجلالة". فأعطاها الوردةَ، وكانت هي التي تَمّ اختيارُها.

عادت كسياني إلى نفسها ورأت أنّـها لم تَعُدْ راهبةً ولا أصبحت عروساً للإمبراطور. فراحت تبكي متأثّرةً جِدًّا. وعادَتْ إلى الدّيرِ مِن جديدٍ تائبةً وطالبةً من رئيسةِ الدّير أن تَقبلَها، مُعلنةً توبتَها عَمّا حصل. فوافقَتْ رئيسةُ الدّير، شَريطةَ أن تَعودَ راهبةً مبتدئة، وهكذا كان. وأعطَوها غرفةً عند مدخلِ الدّير، وليس مع بقيّةِ الرّاهبات.

مرَّتِ الأيّام، وكان العرفُ يقضي بأن يزور وليُّ العهدِ بعدَ زواجِهِ أنحاءَ الإمبراطوريّة. وفي تجوالِه وصلَ إلى المنطقة الّتي يوجدُ فيها الدّيرُ الّذي تعيشُ فيه الراهبة كَسياني. فقالَ لهُ مُرافِقُوه: هل تذكرُ يا صاحب الجلالة ما حَدَثَ يومَ اختيارِكَ لِعَروسَتِك؟ تلك الفتاة التي أجابَتْكَ على سُؤالك، كانت راهبةً قبلَ أن تذهبَ إليك ذاك اليوم، وعادَتْ بعدَها إلى الرَّهبنة، وهي الآن في ديرٍ قريب. فأَعرَبَ عن رغبتِه بزيارةِ الدّير ورُؤيَتِها. وهكذا كان.

عندما وصل الامبراطور الجديد وحاشيتُه إلى الدّير، كانت كَسياني في غرفتها تَكتُبُ التّرتيلةَ الّتي سَمِعناها والتي تقول: "يا ربُّ، إنّ المرأةَ الّتي سقطَتْ في خَطايا كثيرة، لَمّا شعرَتْ بِلاهُوتِكَ، اتّخذَتْ رُتبةَ حاملاتِ طِيبٍ، فقدّمت لك طُيوباً قبل الدّفن، مُنتحبةً وقائلة: وَيحي! لقد صار لي طُغيانُ الفُجورِ وَعِشْقُ الخطيئةِ لَيلاً حالِكًا مُدْلَـهِمًّا! فَاقْبَلْ يَنابيعَ دُمُوعي يا مُـجتَذِبَ مِياهِ البَحرِ بِالسُّحُب، وَانعَطِفْ لِزَفَراتِ قَلبي يا حانِـيَ السّموات بإخلاءِ ذاتكَ الّذي لا يُوصَف. إنـّي أُقَبِّلُ وَأُنَشِّفُ بِضفَائرِ رأسي قدمَيكَ الطّاهرتَين اللّتَين لَمّا بَلَغَ وَقْعُهُما الرّهيبُ مسامعَ حوّاءَ في الفِردَوس، توارت خوفًا. فمن يفحصُ كثرة خطاياي... "

ولما بلغت كسياني إلى عبارة (مَن يَفحَصُ كَثْرَةَ خَطاياي) كان الإمبراطورُ قد وصل، فسَمِعَتِ الأصوات والجلبة، فتَرَكَتِ القَلَمَ على الطّاولة، وخَرَجَتْ مُسْرِعَةً مِن غُرفتِها، إِذ لَـم تُرِدْ رُؤيةَ الإمبراطور.

طلب الامبراطور من رئيسةِ الدّيرِ رُؤيةَ كَسياني، فوافَقت. فدَخَلَ إلى غرفتها، ووجد على الطاولة ما كانت تكتبه، فقرأَهُ، ولَـمّا وَصَلَ إلى قَولِـها "فَمَنْ يَفحَصُ كَثْرَةَ خَطاياي"، أَخذَ القَلَمَ وأضافَ: "وَلُـجَجَ أَحكامِك"، وَغادر.

عادَتْ كَسياني إلى غُرفَتِها بعدَ ذَهابِ الإمبراطور، ورَأَتْ ما كَتب، فتابَعَتْ: "يا مُـخلِّصي ومُنقِذَ نفسي، لا تُعرِضْ عَنّي أنا أمتَك، يا من له الرّحمةُ العُظمى).

رحمةُ الرّبِّ فَلْتَشْمُلْنا جميعًا، وتُعطِنا القُوّة، وَلْتَكُنْ بَرَكتُهُ وَرَحمَتُهُ مَعَنا، وَلْتَتَقَدَّسْ نُفوسُنا، لِنَصِلَ إلى يَومِ القيامةِ المجيد.

آمين