فليس الغضبُ من المسيح، ولا الشّهوةُ، ولا الغيرةُ،…
عظة غبطة البطريرك يوحنا العاشر في صلاة النوم الكبرى في كنيسة مار مخائيل - دمشق
سيادة الأسقف لوقا الجزيل الاحترام، قدس الآباء الأجلّاء، أيّها الأحبّاءُ جميعاً.
نحن اليوم، في هذه المناسبة، في أوّلِ صلاةٍ نقيمها معاً، في هذا المكانِ الشّريفِ والمبارَك، والذي يحمل اسم رئيسِ الملائكةِ ميخائيل، خلال فترة الصّوم حيث تتكثّفُ صلواتُنا مع أصوامِنا وجهادِنا الرّوحيّ الذي نقومُ به لِنُهَيِّئَ أنفسَنا كي نصلَ إلى يومِ الفصحِ المجيد.
ما أريد أن أقولَهُ وأُذَكِّرَ بِهِ اليوم، هُو معاني الصّوم. الصّومُ هو المعنى الحقيقيُّ لِحياةِ الإنسان. هو المسيرةُ التي يَرجعُ مِن خلالِها الإنسانُ إلى نفسِهِ ويَتذَكّرُ أنّ عليه أن يَكونَ على صُورةِ الله. صورةُ اللهِ هي كلُّ خير، وكلُّ جمال، لا بشاعةَ فيها ولا ظلمة، لا خطيئةَ ولا سَقَطات، واللهُ خَلَقَنا على صُورتِهِ وَمِثالِهِ، كما نقرأ في الكتاب المقدّس، وكان كلُّ شيء حَسَناً. الله خلق كلَّ ما هو جيّد، وعندما خلقَ الإنسانَ، ولِكَثرةِ محبّتِه، خَلَقَهُ على صُورتِهِ وجَبَلَهُ بِيَدَيه. لنتأمّلْ في الاهتمام الكبيرِ والخاصّ الذي أولاهُ الله للإنسان، فإنّه لم يَخلُقْهُ كما خَلَقَ سائرَ مُكَوِّناتِ الطبيعة، حيث قال: "لِيَكُنْ" فكان، بل جَبَلَهُ بيديه، ونفخَ فيه من رُوحِهِ الإلهيّ. ولكنّ الإنسانَ عندما سقط في الخطيئةِ وابتعد عن الله، عرفَ الشّرّ، عرفَ الموت، ورغم ذلك، ولأنّ الله أبدعَ الإنسانَ على صورتِهِ ومِثالِه، ولأنّه لا يريد الموتَ للإنسان، وعدَهُ بِمُخَلِّص، وحقّقَ وَعْدَهُ، وجاء الربُّ يسوعُ المسيحُ مُتَجَسِّدًا مِن مريمَ العذراء، وحقّقَ الرّبُّ وَعْدَهُ بِخَلاصِ الإنسان. وهكذا، أصبح لِكُلِّ واحدٍ مِنّا نحن المسيحيّين أن يسعى في حياتِخ ليَجعلَ صورةَ الله فيه واضحة. وهذا ما نفعلُه يومَ المعموديّة، عندما يسأل الكاهنُ المُقبِلَ إلى المعموديّةِ أن يتّجهَ نحوَ الغرب، رمزِ الظّلمةِ والخطيئةِ والشر، ويسألُهُ إنْ كانَ يَرفُضُ الشّيطانَ وكُلَّ أعمالِه وكلَّ أباطيلِه. وبعدَ أن يُجِيبَهُ بالإيجاب، يطلبُ منه أن يتّجهَ نحوَ الشّرق، ويسألُهُ إنْ كان يُوافقُ المسيح. وبعدَ أن يُعلِنَ موافقتَهُ للمسيح، ويتلوَ دستورَ الإيمان، يُتابِعُ خدمةَ المعموديّة. إذاً، عندما أصبَحنا مسيحيِّين رَفَضْنا الظّلمةَ والخطيئةَ والشّيطانَ في كُلِّ أعمالِهِ ورذائلِهِ.
وخلال صلاتِنا الجميلةِ قُلنا: "أيها الرّبُّ وسَيِّدُ حَياتي، أَعتِقْني مِن رُوحِ البطالةِ والفضولِ وحُبِّ الرّئاسةِ والكلامِ البَطّال". بدأنا بكلمة "أعتِقْني" أَيْ أّخرِجْ مِن داخلي، أنقِذني من أمورٍ معيّنة، هي الشرّ والخطيئة والكسل، اللاعَمل، الفضول. إذاً أنقذني، أعتقني أوّلًا مِن هذه الأمورِ الّتي هي أمورٌ لا تليقُ بالمسيح يسوع، و"أنعم عليَّ برُوحِ العِفّةِ واتِّضاعِ الفكرِ والصّبرِ والمحبّة"، إذاً نقولُ هذه الصّلاةَ على شَطرَين، في الشّطرِ الأَوّلِ أطلبُ أن يَتِمَّ إبعادي عن الخطيئة والظّلمة، ومن ناحيةٍ أخرى أطلبُ أن أُعطى وأن يُنعَمَ عليَّ بالعفّة، الصّبر والمحبّة، وألّا أدينَ إخوتي. هذا يُشبهُ ما تعهَّدْنا به في المعموديّة.
هذه الصّلواتُ، يا أحبّاء، تُعَبِّرُ عن حياتِنا اليوميّة، عندما يعودُ كُلُّ واحدٍ مِنّا إلى ذاتِه، الرّجل معَ زَوجتِه، الأبُ معَ أبنائِه، الأمُّ مع أولادِها، كُلُّ إنسانٍ معَ كُلِّ إنسانٍ آخَر، يلاحظ كُلٌّ مِنّا أنّ هناك أمراً يتنازع عليه في حياته، في أفكاره وذهنه وقلبه. يَميلُ الإنسانُ إلى الأنانية. على سبيل المثال، أثناء جلوسنا إلى الطعام، إنْ كانت هناك خمس تفّاحات على الطاولة، يُحاوِلُ كُلُّ واحدٍ أن يختارَ التفّاحةَ الجيّدةَ لنفسِه، بشكل لاإرادي. بإمكانِ الأمّهاتِ ملاحظةُ هذا الأمر في أطفالهنّ، عندما تطلب الأمُّ من ابنِها أن يُعطيَ مالَهُ لِقَريبِهِ أو أَخيه أو جارِهِ فإنّهُ يَرفُض. هذه نتائجُ الخطيئةِ الّتي وُلِدْنا فيها. إذا تكلّمَ أحدُنا معَ الآخَرِ ولم يُلْقِ عليه التحيّةَ جيّداً يَغضبُ ويَثُور: "لم يَحترِمْني"، يَرفَعُ صوتَهُ بِغَضَب. وهذا يَحدُثُ كُلَّ يومٍ في بُيوتِنا. كُلَّ يومٍ نَعيشُ أمراً كهذا، نحن كمسيحيّين، وخاصّةً وقتَ الصّوم، نتذكّرُ أنّه علينا أن نحيا بهذه الطريقة وألّا نَدَعَ الأنانيةَ والغضبَ وحُبَّ الذّاتِ وحُبَّ التملُّكِ تُسيطرُ علينا. علينا أن نُرَبِّيَ أولادَنا على أن يتشاركوا معَ الآخَرِينَ مِن إخوةٍ أو أقارِبَ أو رِفاقٍ على أن يُعَوِّضَ الله علينا لاحقاً. علينا أن نُعلِّمَهُمُ العطاءَ والمحبّةَ والتّخلِّيَ عَنِ الذّات. وهكذا نعيش هذا المّدِّ والجَزْرَ بين الظّلمةِ والنّور. نتذكّرُ أنّنا في يومِ المعموديّةِ رتّلْنا: "أنتم الذين بالمسيحِ اعتمدتُمْ، المسيحَ قد لَبِسْتُم". فليس الغضبُ من المسيح، ولا الشّهوةُ، ولا الغيرةُ، ولا الكَذِبُ وما إليها. المسيحُ هو كُلُّ خَير، وكُلُّ شيءٍ طيّب. هو الابتسامة، الفرح، التواضع، السّلام، العطاء، وما إلى ذلك.
نحن نسعى في حياتنا أن نكون على مثاله. وحين نجتمعُ لكي نُصَلِّيَ معًا، نقول: "يا رَبُّ ارْحَم" عِدّةَ مَرّات، لأنّ الإنسانَ يَخضعُ للتّجربةِ حتّى أثناء طَلَبِهِ الرّحمة. يقول "يا رَبُّ ارْحَم" بِفَمِهِ في حِينَ أنَّ ذِهنَهُ مشغول. لكنّنا نعودُ إلى ذاتنا ونتذكّرُ أنّ علينا أن نَطلُبَ رحمةَ اللهِ ومَعُونةَ السيّدةِ العذراءِ والقدّيسِين. ما نقومُ بِهِ مِن قراءةِ الإنجيلِ، ومن صلاةٍ واجتماعٍ في الكنيسة، يَدعُونا إلى أن نسألَ أنفُسَنا: لماذا نفعلُ كُلَّ هذا؟ وما هي النتيجة؟ أنَعودُ إلى بيوتِنا كما أتينا؟ أنَعُودُ لِنعيشَ حياتَنا كما سبق، وكأنّ شيئاً لم يَكُن؟ كلّا! نحن نأتي لكي نتغيّر من داخل. تكرار كلمة "يا رَبُّ ارْحَمْ" لِمئةِ مَرّةٍ في هذا المساءِ المبارَكِ لا يَذهَبُ سُدًى. نحن لا نقولُها شَفَوِيًّا فَحَسْبُ، بَلْ نُرَدِّدُها لِتَسْحَقَ القلبَ وَتُواضِعَ الذِّهنَ، وتنعكِسَ علَينا رحمةً ومحبّةً في تَعامُلشنا معَ الآخَرِين. وَمِن هُنا فالجماعةُ المُصَلِّيَةُ هي جماعةٌ متغيِّرةٌ ومتجدِّدةٌ في حياةِ المسيحِ يسوع. تتبدّلُ متقدِّمةً نحوَ الأفضلِ يومًا بعدَ يوم، خطوةً بعدَ خطوة. وهكذا نرتقي إلى ملكوتِ الله تدريجيًّا، ولَئنْ كُنّا لا نزالُ على الأرض. نعيشُ هذه الحقيقةَ في داخلِنا، حقيقةَ أنّنا ننتقلُ من الظّلمةِ إلى الاستنارة والنور.
ما أريدُ قَولَهُ لَكُم في هذه الصّلاةِ المُبارَكَة، أنَّ الرّبَّ يُعطينا جميعاً يا أحبّة، وَيُقَوِّي كُلَّ الموجودينَ والغائبِين، وَبِشَكلٍ خاصٍّ في هذه الأيّام، وَخِلالَ الوَضْعِ الذي نَعيشُه في بلادِنا في سوريا والمنطقةِ كُلِّها، أنْ يُعطيَنا الرّبُّ أن نَفهمَ هذا الكلام، لِكَي نَعُودَ إلى رُشْدِنا ونَفهَمَ أنّنا مخلوقون على صورةِ اللهِ ومِثالِه، فنعيشَ بِسلامٍ ومحبّةٍ وَهُدوء، عسى هذه الغيمةُ السّوداءُ أن تنجلي. الرّبُّ يَحميكُم جميعاً ويُعطيكُمْ كُلَّ الصحّة. آمين.