إيماننا ليس فلسفةً وأفكارًا جميلة، بل هو حقيقيٌّ…

2013-03-10

عظة غبطة البطريرك يوحنا العاشر في أحد مَرفَع اللحم في كنيسة النبي إيليا

 

سيادةَ الأسقفَين العزيزَين نقولا وموسى،

قُدسَ الآباءِ الأَجِلّاء،

أيّها الأحبّاءُ جميعًا،

أَوَدُّ أن أقولَ أوّلًا لصاحبِ السِّيادة الأُسقُف نقولا: إنَّ الكلماتِ الطيّبةَ التي قُلتَها أَثّرَتْ في قلبي كثيراً. وكما ذكرتم، فقد تفوّهتُم بهذه الكلمات، باسمكم وباسم هذه الوجوه والقلوب الطيّبةِ المؤمنة، الموجودةِ في هذه الكنيسة المقدّسة، وكُلِّ الغائبين الّذين لم يَتَسَنَّ لَهُم الحضورُ فيما بيننا اليوم.

3_1

بالطبع، حديثكم عن أبناء هذه الرعية الموجودين في هذه المنطقة، عن أنهم أبناء مخلصون بإيمانهم ببلدهم، بوطنهم، وبمحبّتهم لبعضهم البعض، هذا الكلام يؤثّر فينا جدّاً. وأثناء حديثكم، كنت أنظر إلى الوجوه الموجودة أمامي فيما كانوا يردّدون، كلمة "آمين"، وهم يهزّون رؤوسهم دليل الايمان والقوة والموافقة والختم بالكلمات التي تفوّهتم بها. لذا، فإنّه في يومٍ كهذا، والذي هو الزيارة الأولى لإقامة القدّاس الإلهيّ الأوّل مع محبّتكم في هذه الكنيسة المقدّسة الشريفة، كنيسة مار الياس الحيّ حيث نقيم القدّاس الأوّل لكي نرفع الشكر والسجود والإكرام للربّ ونطلب رحماتِه ونشترك في الإفخارستيا في جسده ودمه الكريمين، هذا يؤثّر بي جدّاً ويجعلني في موقف وموقع أفكر فيه: بماذا يمكنني أن أتكلم؟ وبماذا أتفوّه في لحظات كهذه ونحن مجتمعون معًا لتسبيح اسم الرّبّ وتمجيدِه!

ما أستطيع قولَهُ والتأكيدَ عليه، يا صاحبَ السّيادة، ويا أحبّائي جميعًا، هو ما وَرَدَ في صلاةٍ يقولُها رئيسُ الكهنة في كُلِّ قدّاسٍ إلهيٍّ يقيمُه، حيث يقول: "يا ربّ، يا ربّ، اطَّلِعْ مِنَ السّماءِ وَانظُرْ، وَتَعَهَّدْ هذه الكرمةَ وَأَصْلِحْها لأنَّ يَمينَكَ قد غَرَسَتْها". ها نحن جميعاً نُرَدِّدُ هذه الكلمات، بقلبٍ واحدِ وبِفَمٍ واحد، راجِينَ الربّ الإله أن يباركَكم ويحفظَكم ويحميَكم، ويحميَ بلدَنا سوريا، ويحميَ العالم بأسره، حتى يعيش الناس بطمأنينة وسلامٍ وفرح.

اليوم، كما تعلمون، هو أحد مَرفَع اللحم، ويَفصلُنا عن بدءِ الصّومِ الكبيرِ أسبوعٌ واحدٌ، هو أسبوعُ مرفعِ الجُبن. وقد رَتَّبَتِ الكنيسةُ أن يُتلى في هذا اليومِ هذا المقطعُ من الإنجيل الذي يتحدّثُ عن الدينونة، عندما يأتي الرّبُّ يسوعُ المسيحُ إلى اليوم الأخير، يوم الدينونة، وسيقولُ للذين على اليمين: "كنت جائعاً فأطعمتموني، كنت عطشاناً فسقيتموني، كنت مريضاً فزرتموني، وكنت محتاجاً فساعدتموني". ولهم سيقول: "ادخلوا إلى فرح ربِّكُم". أمّا الذين عن اليسار، فيقول لهم: "كنت جائعاً ولم تطعموني، كنت عطشاناً ولم تسقوني، كنت مريضاً ولم تزوروني". فيُجيبُه الذين عن اليمين: "متى رأيناك يا ربُّ جائعاً أو عطشاً أو مريضاً وخدمناك؟" أما الذين عن اليسار فيقولون له: "متى رأيناك يا ربُّ جائعاً أو عطشاً أو مريضاً ولم نخدمْكَ؟" فقال لهم: "كلُّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه".

25

تُذكِّرُنا الكنيسةُ بهذا المقطع الإنجيليّ يومَ أحدِ مرفع اللحم، وقبل البدء بالصوم، حتى تؤكِّدَ لنا وتذكّرنا بإيماننا المسيحيّ، والذي يقوم بشكل أساسيّ على المحبّةِ وأفعال المحبّة والخدمة، كما نقرأ في الإنجيل "الله محبة". لذلك إيماننا هو ليس مجرّدَ أمرِ يُسعِدُنا ويبقى في عقولِنا وأذهانِنا وحسب. إيماننا ليس فلسفةً وأفكارًا جميلة، بل هو حقيقيٌّ متأصِّلٌ في قلوبنا وعقولنا وكيانِنا وكُلِّ حَواسِّنا وأعضائِنا. هذا الإيمان الذي نعيشُه ونُعبِّرُ عنه بعلاقتِنا مع بعضنا البعض أوّلًا وبعلاقتِنا مع الإنسان الآخر الموجود أمامنا ثانياً، هو متجسِّدٌ في حياتنا وعلاقتنا ومسيرتنا مع الناس. ولهذا يذكّرنا الإنجيل اليوم، بأنّ الرّبّ يسوع في يوم الدين، سيسألُنا عن هذا الأمر، وسيَسألُ ما الذي فعلناه في حياتنا؟ كيف تصرّفْنا تجاه الجائع والمحتاج. الإيمان المسيحيُّ هو إيمان حقيقيٌّ يتجسّدُ في أفعال المحبّة، يتجلّى في افتقاد المسكين والمريض والمحتاج ومساعدتهم، وفي إطعام الجياع، وسائرِ أعمالِ الرّحمة. أن تكونَ إطلالتُنا إطلالةَ فَرَح، إطلالةَ محبّةٍ بابتسامة، على كل إنسان شاء الله أن يكون موجوداً أمامنا، وخاصةً في هذه الأيّامِ التي تَمُرُّ فيها بلادُنا بمحنةٍ قاسية، حيث يتألّمُ الكثيرون. ولهذا واجبُنا الأساسيُّ أن نتكاتفَ ونتعاضدَ وأن يضعَ كُلٌّ مِنّا يدَهُ مع اليد الأُخرى، حتى نكون بمحبّةٍ وبِعَيشٍ مشترك مع بعضنا. أن نكون عائلةً واحدة، وأن نتضرّعَ كلُّنا إلى الله أن يقوِّيَنا ويقوِّيَ كُلَّ مَن هُوَ في ضيقٍ أو شِدّةٍ أو حاجة، أو يَمُرُّ بظرفٍ قاسٍ، حتى نعيش كلُّنا بسلام بقدر المستطاع ونمجِّدَ اسمَ الرّبّ.

إلى أين سيقودُنا عملُ الخير الذي سنُقْدِمُ عليه؟ هذه المسيرة، خلال الأربعين يوماً القادمة ستُوصِلُنا إلى أحدِ الشّعانين، الأسبوع العظيم، ثمَّ إلى القيامة حيث سنرتّل: "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور". نعم أيّها الأحبة، إيماننا يرتكز على الربّ السيّدِ الذي داس الموت وقامَ من بين الأموات، هذا هو رجاؤنا وايماننا الذي لا يتزعزع، أنّه بعد أيّ صَليبٍ، بعد أيِّ شدّةٍ أو ضيق، هناك رجاء القيامة والفرح والسلام، لأنّ اتّكالَنا هو على الربّ يسوع، الذي هو الطريق والحقُّ والحياة.

أريد في هذا اليوم يا أحبّة، وخلال القدّاس الإلهيّ الأوّلِ معكم في هذه الكنيسة المقدّسة، أن أكرِّرَ أَدعِيَتي إلى الربِّ الإله بشفاعة العذراء مريم وسائر القدّيسِين وشفيع هذه الكنيسة المقدّسة مار الياس الغيور الحيّ، والذي قال قَولَةً في غايةِ الأهمّيّة: "حيٌّ هو الرب الإله الذي أنا واقفٌ أمامَهُ"

نعم حيٌّ، ونحن نحيا بهذا الإيمان وهذه الحقيقة. ونحن نصرخ مع مار الياس ونقول: "حيٌّ هو الرب الإله"، رجاؤنا أنه مهما طالت الأمور، فإنّ كلمة الحقّ هي التي سترتفع وهي التي ستنتصر وهي التي ستقوى وتغلب. الربّ الإله يحفظكم ويقوّيكم جميعاً، ويحفظ عائلاتكم، كباراً وصغاراً، شبّاناً وشابّات، ويحفظ هذه الرعيّة المباركة، ويزيدُكم بالإيمان والتقوى ومن خيراته السماويّة والأرضيّة.

وأدعو أيضاً لِكُلِّ العاملين والذين يخدمون ويرتّلون والذين يساعدون في كُلِّ الهيئات، في كُلِّ الخدمات التي تقوم بها هذه الكنيسة المقدسة، وعلى رأسهم سيدنا نقولا والآباء الأجلاء: أبونا جورج وأبونا سمعان، وكل الآباء الذين يخدمون هذه الرعية، وهذه الوجوه الطيبة. وكلّ عام وأنتم بخير جميعاً.