القدّيس البار يوحنا كاسيانوس الرِّوماني

2015-02-28

 ‎‏(+435م)‏:

هو من شائه الرّب الإله وسيطًا لزرع الرهبنة المشرقية في الغرب.

saint_johncassian_theroman وُلد في سكيثيا، في ناحية مصب نهر الجانوب، في ما يُعرف حاليا ب " دوبرودغيا" الرومانية. من عائلة مميزة. تابع بنجاح، درس الكلاسيكيات. وإذ اعتمل فيه التوق إلى الكمال، نبذ، فتى، الإغراءات الخدّاعة لحياة العالم ووجّه طرفَه ناحية الأرض المقدّسة بصحبة صديقه جرمانوس الذي كان له بمثابه أخ لا بالولادة بل بالروح.

انضمّ الصديقان إلى مصاف الرهبان في أحد ديورة بيت لحم. ثم بعدما سلكا، زمنًا، في أساسيات حياة الشركة، وبلغتهما أخبار نمط حياة رهبان فلسطين وبلاد ما بين النهرين وبلاد الكبّادوك، احتدّت في نفسيهما الرغبة في كمال أوفر، فقرّرا التوجّه إلى براري مصر ليكونا بقرب النسّاك الذين بلغهما خبر جهاداتهم على لسان القدّيس بينوفيوس الملتجىء إلى ديرهما هربًا من الشهرة. وقد أعطاهما رئيس الدير بركته، بعد لأي، مؤكدًا عليهما ضرورة العودة بسرعة.

استحلى الصديقان نظام ونمط حياة الشركة في دلتا النيل، لكنّهما رغبا في الدخول إلى عمق الصحراء. وحيثما حلاّ التمسا، بنهم، مجالسة القدّيسين النسّاك، للمنفعة والبركة لاستطلاع أقوالهم في شأن علم العلوم وفن الفنون، أصول الحياة الروحية. ثم ما لبثا ان أدركا انه لا طاقة لهما على استيعاب التعاليم السماوية لأولئك الآباء ما لم يقضيا وقتًا طويلًا في أوساطهم ويختبرا نمط حياتهم.

وإذ استودعا الأنبا يوسف قضيتهما، لا سيما لجهة ما وعدا به رئيس ديرهما في بيت لحم بشأن عودتهما السريعة إليه، أكّد الأنبا يوسف انه خير لهما أن يبقيا في مصر ما احتاجا دون أن يباليا بما قطعاه على نفسيهما متسرِّعين.

وعلى كلمة الشيخ استقرا في مصر سبع سنوات تنقّلا خلالها من مكان إلى مكان حتى بلغا برّية الإسقيط التي أنشأها، رهبانيًا، القدّيس مكاريوس.

هناك نسك عدد كبير من الرهبان من بينهم آباء كبار كالأنبا موسى وسرابيون وثيوناس واسحق وبفنوتيوس الكاهن. هذا الأخير نفعهما جزيلًا لما قال لهما إنه لا يكفي الراهب أن يزهد في العالم ماديًا ويتخلّى عن مقتنياته ليُقبل على النسك والصمت، بل عليه أيضًا أن يتخلى عن عاداته السالفة وأهوائه. وهذا يحتاج إلى جهادٍ طويلٍ صبورٍ يُعرّضه لفخاخ كثيرة إن انحفظ منها أوصله جهاده إلى نقاوة القلب.

هذا هو هدف الراهب: أن يدخل، بلا انقطاع، في عشرة الله، بالصلاة المستمرة التي يرفعها الذهن المعتَق من هموم العالم بسكينة وسلام في الهيكل المنقى للقلب. والنفس، إذ تبلغ من الزهد هذا المبلغ تندفع، صوب الكمال، مقصيةً عن ذاتها ذكر العالم بالكليّة ومسلُّمة قيادها لله في سعيها إلى المساكن الأبدية وإحساسها بفرحٍ لا يوصف وفيض للنور الإلهيّ عليها. إذ ذاك يستقر الحب الكامل لله في القلب بفضل الصلاة النقيّة فيمسي الله لنا الحبّ والشوق بالكامل، يمسي كلّ ما نبحث عنه وقوام أتعابنا وأفكارنا وحياتنا وكلامنا ونفسنا. أن الوحدة الكائنة بين الآب والابن تنساب، ساعتئذ في لبّ النفس، وكما أحبّنا الله محبّة حقانية صافية لا تخبو نتحد به، نحن أيضًا، برباط لا يقبل الحل.

هذا مايمسي، قدر ما هو ممكن على الأرض، تمام القول الرسولي :" الله، الكل في الكل". وإذ نصير بالكلية أبناء لله نتمكّن، نظير من هو ابن ووارث بالطبع ان نقول:" كل ما للآب هو لي" (يو 16: 15).

هذه هي قمة الكمال: أن تمسي النفس حرةً من ثقل الجسديات وأن تسمو كلّ يومٍ إلى قمم الروحيات فتستحيل الحياة وكلّ حركةٍ من حركات القلب صلاة فذّة لا انقطاع فيها.

وهكذا بعدما تربّى الصديقان على نشدان ذروة الحياة الرهبانية وعاينا، لذلك، أمثلة حيّة، عكفا، بصرامة، على اتباع النماذج التي عايناها، قدر طاقتهما.

ففي هدأة القلاّية، تمرّس كاسيانوس في الجهاد المرّ ضد الأفكار الأهوائية والشياطين، لا سيّما ضد تجربة الضجر التي تعذّب النسّاك وتقضُّهم ليتركوا خلوتهم.

من هذه الخبرة الشخصية ومن تعليم أفجريوس الذي التقاه في نيتريا، استخلص كاسيانوس تعليمًا دقيقًا في الجهاد الروحي والأهواء الثمانية الأساسية: الشره والزنى والبخل والغضب والحزن والضجر والمجد الباطل والكبرياء.

أقام الصديقان، على هذه الحال، في مصر، سبع سنوات عادا بعدها إلى بيت تلحم وحصلا من رئيس الدير على إذن بالعيش في البرية.

فلمّا تمّ لهما ذلك أسرعا في العودة إلى مصر، لكنهما لم يتمكنا من العيش بهدوء على نحو ما كان لهما في الفترة السابقة بسبب حملة الاضطهاد التي باشرها ثيوفيلوس الإسكندري في حق الرهبان الذين اتّهمهم باتباع خط سير أوريجنسر، الأمر الذي أحذث اضطرابًا ليس بقليل بين الرهبان حتى إن مجموعة من تثلاثماية راهب فرّوا من نيتريا.

مع القدّيس يوحنا الذهبّي الفم:

أمّا كاسيانوس وجرمانوس فالتحقا بخمسين من الرهبان لجأوا إلى القسطنطينية، إلى كنف القدّيس يوحنا الذهبي الفم. كان ذلك حوالي العام 401م .

فلما وقعت عينا الذهبي الفم عليهما عرف بالروح حسن معدنهما فأقنع جرمانوس بقبول الكهنوت من يده وسام كاسيانوس شماسًا.

بهاء قداسة الذهبي الفم وسمو نطقه خلبا لب كاسيانوس فجعل نفسه في ذمّته قانعًا بالتضحية بسكون البرية للانتفاع من معلّم كهذا المعلم.

ولكن ما ان انقضى زمن قليل حتى وقع القدّيس الذهبي الفم ضحيّة مؤامرات ثيوفيلوس فجرى نفيه، فيما خرج كاسيانوس وجرمانوس في بعثة إلى رومية بصحبة بلاديوس الأسقف، تلميذ الذهبي الفم، لينقلوا إلى البابا إينوكنديوس الأول رسالة من الشعب المؤمن والكهنة لدعم الذهبي الفم الذي جرت الإطاحة به ظلمًا.

أمضى القدّيس كاسيانوس في رومية عشر سنوات اقتبل خلالها لدرجة الكهنوتية، ثم انتقل إلى مرسيلية في بلاد الغال حيث أنشأ للرجال دير القدّيس فيكتور، عند ضريح شهيد من القرن الثالث الميلادي، كما أنشأ للعذارى دير المخلّص (415م).

العلم الرهباني للقدّيس كاسيانوس كان مستمدًا، بطبيعة الحال، مما رآه وتعلّمه من الآباء الشرقيين، غير أنّه جعل هذا التعليم موافقًا لشروط الحياة في بلاد الغال وكذا للأحوال الحيوية وطبيعة السكان.

ثم أنه وضع مؤلّف " المؤسسات الشركوية " بناءً لطلب القدّيس كاستور الأسقف ولفائدة الأديرة التي أسّسها هذا الأخير في البروفنس.

وصف كاسيانوس في مؤلّفه نمط رهبان مصر ملطّفًا ما لم تكن للرهبان الغاليين طاقة عليه.

كما عرض للأدوية الموافقة للأهواء الثمانية الأساسية. ثم بعد ذلك أكمل تعليمه بكتاب آخر أسماه " اللقاءات " عرض فيه مراحل الجهاد من أجل نقاوة القلب والتأمل.

حافظ القدّيس كاسيانوس على الأمانة للآباء الشرقيين، لا سيما الذهبي الفم والكبادوكيين. وقد وقف في وجه أوغسطينوس المغبوط الذي بالغ في الفصل بين الطبيعة البشرية والنعمة الإلهية بقصد محاربة الهرطقة البيلاجية. فرغم ان كلّ عطيّة صالحة وكلّ نعمة نازلة، في نهاية المطاف، من الله الذي هو " أب الأنوار"، فإن الحريّة البشريّة المخلوقة على صورة حرية الله المطلقة، والمتجددة بالمعمودية، مدعوة لأن تستجيب وتتعاون والنعمة الإلهية لكي تنشئ في النفس الثمار الخلاصية للفضائل حتى يمكننا القول مع الذهبي الفم ان "عمل الله هو إعطاء النعمة وعمل الإنسان هو تقريب الإيمان".

هذا التعليم لكاسيانوس، وغيره للآباء الشرقيين، أثار، لدى المتطرّفين من أتباع أوغسطينوس المغبوط ، ردّ فعل عنيف فاتّهموا كاسيانوس بالهرطقة نصف البيلاجية. هذا وقد لزم كاسيانوس الصمت ولم يسعَ إلى تبرير نفسه.

رقد بسلام في الرب سنة 435م.

اعتبره معاصروه قديسًا وأكرمه الرهبان الغربيون، مذ ذاك، أبًا لهم وأحد كبار معلميهم. رفاته مستودعة إلى يومنا في دير القدّيس فيكتور في مرسيلية.

 يُعَيَّد له في ٢٩ شباط.