القدّيس أيّوب الصدّيق



05-06

يميل البعض إلى إرجاع سفر أيّوب إلى الألف الثاني قبل الميلاد. وأمّا مرسح الحوادث المصورّة في السفر فيبدو أنه الهضبة الواقعة  جنوبي شرقي فلسطين حيث تقع عوص وتيمان وشوّة ونعمة. ويظن أن الكاتب هو أحد أهل فلسطين. 

السفر بصورة أساسيّة، حوارات جرت بين أيّوب وأصحابه أليفاز وبلدد وصوفر وأليهو بغرض إلقاء الضوء على موضوع الألم في تدبير الله. أمّا خاتمة السفر فكشف إلهي يتكلّم فيه على هذا الأمر كما لا يتكلّم الناس. 4c9eed21090e6b1a8ec475d3cbb988bb

كان أيّوب صالحًا كاملًا يتّقي الله ويحيد عن الشر. ولأنّه كذلك باركه الله ومنّ عليه بخيراتٍ جزيلة، ويقول السفر عنّه أنّه كان "أعظم أبناء المشرق قاطبةً". والرّب الإله نفسه شهد له أنّه "لا نظير له في الأرض، فهو رجل كامل صالح يتّقي الله ويحيد عن الشرّ". ومع ذلك حدث لأيّوب ما تخطّى العادي المألوف لعلاقة الله بشعبه لجهة ثواب البار وعقاب الأشرار.

هنا أسلم أيّوب إلى الألم رغم برّه. دخل الشيطان في الصورة متهمًا أيّوب ومشككًا له، والشيطان يطرح مسألة جدّية أساسيّة في شأن طبيعة علاقة الإنسان بالله: هل يعقل أن يحبّ الإنسان الله لذاته من غير أن يكون له مطمع لما يأتيه منه من خيرات وبركات؟". 

وكان بعد حين أن خسر أيّوب كلّ من له وما له، ورّد فعله كان بأن قال:" عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك. الرّب أعطى والرّب أخذ، فليكن اسم الرّب مباركًا".

وباءت خطة الشيطان لحمل  أيّوب على الكفر فاشلة.  فكان الشيطان يعول على فقدان أيّوب رجاءه بإلهه، فيكون التجديف عليه تعبيرًا عن كون الرجاء بالله باطلًا.

فابتلى الشيطان أيّوب بقروح انتشرت في بدنه كلّه، ولكن حتى بعدما أصاب أيّوب ما أصابه لم يكفر بإلهه. وهنا تدخلّت زوجته وأوحت إليه أن يجدّف على الله، فأجابها: "أنت تتكلمين كالجاهلات, أنقبل الخير من عند الله ولا نقبل المضرّة".

في هذا كلّه لم ترتكب شفتا أيّوب خطأ في حقّ الله. وهنا دخل أصحاب أيّوب لتعزيته، أليفاز قال إن أيّوب يتألّم لأنّه أخطأ، ثم نصحه بالاعتراف بخطاياه.
أمّا بلدد فأضاف أن أيّوب ظلّ يتألّم لأنه لم يرد الإقرار بذنبه، ووبّخه ووسمه بالكبرياء لأنّه ادّعى أن معاناته لم تكن نتيجة خطيئة ارتكبها.
وأمّا أليهو أصغر أصحاب أيّوب فقال الله ليس بظالم، أمّا أيّوب فقد فغر فاه بالباطل وأكثر من الكلام بجهل.

هذه كانت مواقف أصحابه، أمّا هو فبعدما لعن يوم مولده ووصف حزنه بأنه أثقل من رمل البحر، رجا الله أن يسحقه لتبقى له تعزية وبهجة أنّه في خضم آلامه لم يجحد كلام القدّوس. تمسّك بالقول أنه بار وسأل في مرارة نفسه، موجهًا كلامه إلى ربّه: "لماذا جعلتني هدفًا لك؟ واستبان أيّوب بإزاء ما عانى، كما في حيرة من أمره. وهو يعرف أنه بريء ولكنّه لا يعرف بماذا يجيب الله. بين كرِّ وفرّ، بين استظلام لله ولجوء إليه، نستبين طبيعة المشاعر المتلاطمة المتصارعة التي عصفت بأيّوب. 

وأخيرًا كلّم الرّب أيّوب من العاصفة. وأورد السيّد الرّب في صيغة أسئلة كلّ تدابيره في خلقه ليوحي لأيّوب بكلّ الحكمة التي برأ بها الخليقة والدقّة المتناهية في إثبات أحكامه.

وعاد أيّوب إلى نفسه، واستدرك وقال لرّبه: "حقًا لقد نطقت بأمورٍ لم أفهمها وبعجائب تفوق إدراكي.

بسمع الأذن سمعت عنك والآن رأتك عيني، لذلك ألوم نفسي وأتوب معفرًا ذاتي بالتراب والرماد". 

ورضي الله عن أيّوب وحمّق أصحابه الثلاثة لأنّهم لم ينطقوا بالصواب عنه كما نطق عبده، وأمرهم أن يمضوا إليه ويقرّبوا محرقات عن أنفسهم ليصلّي أيّوب من أجلهم، فيعفو عنهم القدير إكرأمًا له.

وهكذا كان. أمّا أيّوب فردّه الرّب من عزلة منفاه، وضاعف ما كان له من قبل وبارك آخرته أكثر من أولاه.