البطريرك يوحنا العاشر تسلم جائزة جمعية "وحدة…



2015-02-20

في حفل ضخم أقيم في القاعة الكبرى لكنيسة المخلص في موسكو وبحضور قداسة البطريرك كيريل، بطريرك موسكو وكل روسيا، تسلم البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس جائزة "جمعية وحدة الشعوب الأرثوذكسية". وقد شارك في هذا الحفل حضور رسمي حكومي وشعبي كبير. استقبل البطريرك على مدخل القاعة من قبل البطريرك كيريل ودخل معه ومع رئيس الجمعية وحائزي الجائزة لهذا العام. وبعد عرض توثيقي لتاريخ الجائزة وكلمة افتتاحية للبطريرك كيريل تسلم غبطته الجائزة من رئيس الجمعية فاليري ألكسييف وألقى كلمةً جاء فيها:

"اسمحوا لي، بادئ ذي بدء، أن أقول: وضعتم على صدري وسام تقديرٍ

0720 وأنا بدوري الآن أضعه على صدر أخوينا مطراني حلب بولس يازجي ويوحنا ابراهيم المخطوفين منذ ما يقارب العامين وسط صمت مريب ومعيب. هذ التقدير أضعه على جبين كنيسة أنطاكية المعذبة، على جبين ابنة الديار البارة المغروسة فيها قِدم التاريخ بعينه، المغروسة هناك بقوة لا تنيخها عواصف الزمن الحاضر. نحن في أنطاكية مزروعون في سوريا ولبنان والعراق وفي كل بقعة من المشرق. 

أضع هذا التقدير على جبين الأم الثكلى وعلى قبور الشهداء الذين يدفعون ثمناً باهظاً لزيف تسمياتٍ ولتطرف إيديولوجياتٍ. 

وكأن قدر هذا المشرق أن يكون منخلاً لكل إيديولوجيات الدنيا. وكأن قدر إنسانه أن يكون مجرد سلعة رخيصة أمام سوق السلاح وأمام كل من يركب حصان الشعارات المعسولة وينظّر في سوق "حقوق الإنسان"، في حين أن حقوق الإنسان عنده تقف أمام روابي فلسطين ولا تلجها وهذه الحقوق لا تعرف سبيلها إلى قضية مطراني حلب، ولا إلى تدمير أوابد العيش الواحد ولا إلى مشرقٍ يستباح سلامه بتفجيراتٍ وإرهابٍ في سوريا ولا إلى لبنانٍ يخطف عسكره ولا إلى عراق يذوق إنسانه مرارة التكفير الأعمى.

ولئن بدت هذه الكلمة عاصفةً فلأن أنطاكية ما تعودت بلسان بطريركها إلا أن تكون حاملة أفراح وأتراح إنسان ديارها؛ أن تكون مرآة عيش إنسانها، مرآة ضيقه وفرجه، مرآة صليبه وقيامته وشراع ناره ونوره. وليس لبطريركها أن يكرّم لشخصه بل لأن كنيسة أنطاكية وديار أنطاكية أناطت بإكليروسها على مر التاريخ أن يكون سفير وجع ديارها إلى البرِيّة بأسرها وشراع قوة رجائها ومنارة بأس صمودها إلى كل المعمورة. أناطت به، على رغم كل ضعفاته البشرية، أن يكون سفير العزيمة الرسولية الأنطاكية التي تشربها جيلها الحاضر من جيل الرسل القديسين ونقلها وينقلها إلى أبنائه مع حليب الأمهات. 

وهذه العزيمة الرسولية هي التي أراها اليوم أمامي في شعب روسيا؛ أراها في شعبٍ طيبٍ مرت عليه حقباتٌ وحقبات ولكن إيمانه انجلى وينجلي كالذهب في النار. شعبٍ طيبٍ صقلته رحى الأيام لكنها تآكلت أمام غيرته وأمام إيمانه، شعب متحدٍ صلاةً مع كل أخ في الإيمان. شعبٍ أسند الروحُ دفة كنيسته إلى الأخ البطريرك كيريل، الذي يحتضن كنيسة أنطاكية أيضاً بمحبته. بلدٍ أخذ على عاتقه حكومةً وشعباً وكنيسةً أن يمد يد العون الإنساني إلى كنيسة أنطاكية وشعب ديارها ولم يوفر جهداً للدفع باتجاه الحل السلمي لقضيتها ولكل قضايا الشعوب. شعبٍ عشق استقامة الإيمان واغتذاها هويةً وتشربها كياناً. شعبٍ أفرع قديسين لأنه من وميض نور القدوس ومن تعاليم رسله الذين خرجوا إلى أقاصي المسكونة نسج لنفسه هويةً وكينونةً ذابت أمامها ترهات التاريخ.

أبعث من هنا بالتحية لفخامة الرئيس فلاديمير بوتين ومساعديه في الحكم وأعوّل كثيراً على الدور الروسي في الدفع باتجاه الحوار والحل السلمي السياسي في سوريا وترسيخ أسس ودعائم الاستقرار في لبنان وفي كل منطقة الشرق الأوسط، كما أعول عليه أيضاً في الضغط من أجل الإطلاق الفوري لأخوينا مطراني حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي المختطفين منذ عامين وسط صمت دولي معيب. 

كما أكرر شكري لقداسة الأخ الجليل البطريرك كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيا الذي برعايته يشمل هذا الحدث. أشكر أيضاً السيد فاليري ألكسييف، رئيس المؤسسة العالمية الاجتماعية لوحدة الشعوب الأرثوذكسية وأصلي أن يكلل الله جهود كل القيمين فيها بالنجاح والتوفيق. وأهنئ بدوري السادة الذين نالوا شرف التكريم وجائزة وحدة الشعوب الأرثوذكسية لهذا العام. وأوكد من على هذا المنبر أن وحدة الشعوب الأرثوذكسية ما هي إلا تعبير أولٌ عن ماهية الأرثوذكسية أخوّةً بين شعوب وأعراق يصهرها إيمانٌ واحدٌ. وهذه الوحدة هي أيضاً لبنةٌ أولى في سبيل الوحدة المسيحية وأن أنطاكية وموسكو هو خير من يشهد ويدمغ بطابع التاريخ تلك الوحدة الأرثوذكسية والإنسانية بين كنيستين وشعبين رسم الله لكل منهما أن يكون شاهداً لمحبته للبشر، ومن فيض هذه المحبة اندفقت مآقي حبهما للأرثوذكسية وللبشرية بدون تمييز بين لون وعرق. 

نحن هنا لنطلق صرخة سلامٍ من أجل سلام كل العالم ونقول إن رنة المعول الذي يبني هي أقدر من قعقعة الحروب في كل بقعةٍ من هذه البسيطة. نطلق صرخة سلامٍ من أجل الشرق الأوسط بكل بقاعه ومن أجل سوريا بالتحديد، سوريا التي تاقت إلى أيام سلامها والتي سئمت لغة الإرهاب والتكفير والخطف والحصار الاقتصادي الخانق الذي تأذى منه كل سوري. نحن هنا لنصلي من أجل لبنان واستقرار لبنان الذي دفع ثمن العنف ويدفع إلى الآن ويقاسي العنف والخطف المدان وفراغ المؤسسة الدستورية الأولى. كما نرفع الصوت أيضاً من أجل السلام في أوكرانيا ومن أجل أن يديم الله رحمته على روسيا. 

إن المسيحية المشرقية المضطهدة مع كل صوت اعتدالٍ في هذا المشرق تتوق إلى أيام سلامها. وهي تقاسي مع غيرها تهجير الأبناء والخطف والإرهاب وتجهد مع الكثيرين وتأبى أن تغادر أرضها التي هي هويتها وذلك مهما عصفت رياح الظلام وهاجت أمواج المصالح. والمسيحية في ديارنا هي أحوج ما تكون في هذه الظروف إلى ترجمة ملموسةٍ لكل دعم معنوي مساعدةً فعليةً ومشاريعَ ومؤسساتٍ تساهم في تثبيت المسيحيين في أرضهم. 

ومع كل هذا، فكنيسة أنطاكية الجريحة لما يحدث في ديارها لا يخيفها الزمن الحاضر لأنها مجبولة بالقيامة والنور ولأن السيد يستلب كيانها ولأنه كيانها وقوتها وقائد دفتها مهما علت أمواج الزمن ولأن غيرة وعزيمة أبنائها هي من عزيمة أندراوس ومن صبر بولس وحماسة بطرس ومن محبة المتكئ على الصدر.

أكرر شكري لكم جميعاً وأضرع إلى رب السماء أن يحفظكم جميعاً