دير سيّدة البلمند البطريركيّ



دير سيّدة البلمند البطريركيّ

 

لفظ البلمند مشتقّ من الكلمة الفرنسيّة "بلمون"، وهو اسم أطلقه الرهبان السيسترسيّون، في القرن الثاني عشر، على أوّل دير لهم في المشرق، شيّدوه على تلّة يبلغ ارتفاعها ثلاثمائة متر عن سطح البحر، تطلّ على السهل الساحليّ، وتبعد ستّة عشر كيلومترًا عن طرابلس، وثمانين كيلومترًا شمال بيروت.   

منذ العام 1603، غدا هذا الموقع مركزًا لدير أرثوذكسيّ مكرّس للعذراء مريم وللقدّيس جاورجيوس. وما يزال مكان صلاة وتأمّل، ومنذ العام 1970 أصبح البلمند مجمّعًا يتكوّن من مؤسّسات دينيّة وتربويّة تشمل ثانويّة سيّدة البلمند، فمعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، ثمّ جامعة البلمند التي تأسّست في العام 1988، والتي أصبح المعهد اللاهوتيّ جزءًا منها.

دير سيّدة البلمند البطريركيّ  
 الرئيس قدس الأرشمندريت جورج يعقوب الجزيل البرّ 
 العنوان البريديّ دير سيّدة البلمند البطريركي، ص.ب. 100 طرابلس - لبنان
 الهاتف  00961 6 930311
 البريد الإلكترونيّ monastery.balamand@gmail.com 
الموقع الإلكترونيّ  www.balamandmonastery.org.lb

 

تاريخ الدير

تدلّنا طبيعة الموقع على أنّ ديرًا بيزنطيًّا قديمًا كان قائمًا هناك على الأرجح. لكن من المؤكّد أنّ الرهبان السيسترسيّين، القادمين من فرنسا، أسّسوا دير سيدة البِلمون في العام 1157، كأوّل وأهمّ مؤسّسة من مؤسّسات سيسترسيّة عدّة أنشأوها في المشرق.

تكشف أبنية الدير التي شيّدت بين الأعوام 1157 و1169، عن مستوًى عال من الرفاه، استمرّ حتّى أواخر القرن الثالث عشر. ورغم أنّ ما من وثيقة قد بقيت لتسجّل مراحل حياة الدير السيسترسيّ، إلاّ أنّه بالإمكان إدراك مدى أهمّيّته عبر حجم الأراضي الزراعيّة التابعة له. فقد كان السيسترسيّون معروفين باجتهادهم في العمل الزراعيّ، الذي يُستدلّ عليه من تعدّد الأقبية والمخازن والاسطبلات الموجودة في دير البِلمون.

لقد حال تهديم السلطة المملوكيّة الناشئة إمارات الصليبيّين وحصونهم دون استمرار ازدهار البلمند. فآخر ذكر للدير في الوثائق السيسترسيّة، يعود إلى العام 1287. إذ استولى المماليك على طرابلس، في العام 1289، واقترفوا المذابح بحقّ السكّان المحلّيّين واستعبدوهم.

القرون الثلاثة التي تفصل بين نهاية عهد البلمون وإعادة تأسيس الرهبان الأرثوذكس للدير، غير مذكورة بشكلٍ وافٍ في الوثائق. إلاّ أنّ البحوث في علم الآثار، التي أجريت منذ العام 1964، لم تكشف عن وجود الخزف أو بقايا أخرى من العصر المملوكيّ، ما يدلّ على أنّ الدير كان مهجورًا بالكامل في تلك الحقبة. من جهة أخرى، تشير مخطوطة أرثوذكسيّة من العام 1492 إلى أنّ بعض النسّاك سكنوا الموقع في تلك الفترة، ولكن على الأرجح لوقت محدود.

يرد أوّل ذكر للفظ "بَلَمَند" في الإحصاء العثمانيّ لسورية، الذي أجري في العام 1521، بعد مرور خمس سنوات على الفتح العثمانيّ. وهو مذكور كمزرعة تابعة للأراضي التي يملكها أحد موظّفي الدولة العثمانيّة. وبهذه الصفة ذاتها تمّت الإشارة إلى البلمند مرّة أخرى في الإحصاء العثمانيّ الثاني، العام 1571، لكونه تابعًا لقلعة طرابلس. هاتان الإشارتان الرسميّتان لا تأتيان على ذكر الدير بحدّ ذاته، لكنّ المخطوطات المنسوخة في البلمند في العامين 1598 و1599 تشير إلى وجود رهبانيّ محدود، وربّما غير رسميّ في نهاية القرن.

حدث الترميم الرسميّ لدير البلمند في العام 1603. فالصفحة الأولى من سجلّ الدير المدوّن في العام 1610 تفيد بأنّ الدير السيسترسيّ رمّم على يد رهبان أرثوذكسيّين بعد أن أُهمل على مدى 330 سنة، إثر اتّفاق تمّ بين الرئاسة الكنسيّة الأرثوذكسيّة والأعيان والرهبان وسكّان منطقة الكورة. فالمبادرة قام بها يواكيم متروبوليت طرابلس (1539-1604)، مع موافقة الموظّفين الرسميّين المسلمين الضروريّة وسليمان اليازجي المسيحيّ، أمين سرّ والي طرابلس العثمانيّ. كان الدير مهجورًا ولم يكن يملك أيّ أرض زراعيّة؛ لكنّ العقار الزراعيّ المحيط به تحوّل رسميًّا إلى وقف للدير. في ذلك الوقت، انتقل الأب مكاريوس الديراني، الذي كان قبل ذلك رئيس دير كفتون، من أميون إلى البلمند ومعه حوالى اثني عشر راهبًا. فزرعوا كروم العنب والتوت والزيتون وابتاعوا قطيعًا من الماعز وبعض البقر. وبحلول العام 1610، تاريخ تدوين السجّل المذكور آنفًا، كانت الحياة الرهبانيّة قد استتبّت في الدير واستمرّت بالازدهار على نحو غير منقطع. كان البلمند محظوظًا لاجتيازه مرحلة النزاع والاقتتال الذي شبّ في صفوف العشائر والفصائل والمذاهب اللبنانيّة من دون أن يلحق به أيّ ضرر، وذلك طوال مرحلة الحكم العثمانيّ. في الواقع، تحوّل الدير إلى مركز محلّيّ مهمّ اشتهر باستضافة المهجّرين والزوّار على اختلاف أجناسهم وانتماءاتهم. وقد نزل الزائر البريطانيّ هنري موندريل في البلمند، في العام 1697، وخلّف وصفًا غاية في الأهمّيّة، جاء فيه:

كما أذكر، كان عدد الرهبان في هذا الدير يبلغ الأربعين. وقد وجدناهم حسني الطبع ومجتهدين، لكنّني واثق بأنّهم لم يكونوا على أيّ قدر من العلم. ذلك بأنّني وجدت بعد استقصاء قمت به أنّهم لا يستطيعون أن يقدّموا أي ّ تفسير عقلانيّ للخدمة الإلهيّة التي يؤدّونها. ولأبرهن عن بساطتهم الفائقة، لا يسعني إلاّ أن أورد إطراءً قدّمه رئيسهم إلى القنصل، بقوله إنّه "سعيد برؤيته كما لو أنّه عاين المسيّا نفسه آتيًا إلى زيارته شخصيًّا. لكنّنا يجب ألاّ نُدهش لهذا المستوى من الجهل؛ فالرهبان مضطرّون، خارج إطار الصلوات والتعبّد، إلى الاهتمام بالماشية وحراثة الأرض وتشذيب الكروم وغيرها من الأعمال التدبيريّة التي عليهم القيام بها بأنفسهم، ولا وقت لهم للدراسة. وإنّما عليهم القيام بهذا العمل الكادح ليس فقط لتأمين معيشتهم، ولكن أيضًا كي يتمكّنوا من  إيفاء الضرائب غير المعقولة، التي كان الأتراك الطمّاعون يفرضونها عليهم، كلّما تمكّنوا من اختراع ذريعة لذلك. ولكن كي أصف جيّدًا هؤلاء الرهبان الأرثوذكس أضيف ما يلي: إنّ الشخص نفسه الذي رأيناه يخدم في الهيكل، بحلّته الكهنوتيّة البهيّة والمطرّزة، أتانا في اليوم التالي، حاملاً على ظهره جديًا وقربة من جلد الغنم مليئة بالنبيذ هديّة لنا من الدير[1].

منذ تاريخ قديم كانت للبلمند علاقات جيّدة مع الدولة والكنيسة الروسيّة. ففي العام 1651، كتب رهبان البلمند إلى القيصر ألكسي، طالبين منه إرسال المعونة الماليّة لهم. وعيّن الراهب سابا مسؤولاً عن جمع المساهمات من روسيا، فأمر القيصر والبطريرك نيكون جميع موظّفي الحدود بتسهيل مرور الأرشمندريت سابا، كما قدّم له الأحصنة والحرّاس ومنع فرض الضرائب عليه.

ثمّة حادثة مهمّة مسجّلة  في تاريخ البلمند، حصلت خلال هذه القرون الطويلة، وهي الانشقاق داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، في بدء القرن الثامن عشر. فقد كان البلمند هدفًا أساسيًّا للجهود الكاثوليكيّة، من أجل إحداث حركة موالية للبابا (انضماميّة - Uniatisme) في الكنيسة الأرثوذكسيّة. فبحسب أنطوان نشّي، الرئيس العامّ اليسوعيّ لسورية ومصر في ذلك الوقت، لطالما كان البلمند مشهورًا بأنّه أغنى وأكبر الأديار التي يملكها الأرثوذكس في سورية[2].

ورغم ذلك، بقيت منطقة الكورة متمسّكة بالأرثوذكسيّة، ولم يتأثّر بالأزمة الإنضماميّة[3] على عكس ما حصل في معظم الرعايا والأديار الأرثوذكسيّة الواقعة جنوب الكورة.

بعد رحيل الإنضماميّين في بدء عشرينيات القرن الثامن عشر، تقلّص عدد الرهبان إلى ثلاثين. فقد فرضت عليهم الدولة العثمانيّة ضرائب كبيرة. وتذكر المصادر الروسيّة أنّ البلمند، إثر بدء الثورة اليونانيّة في العام 1821، تعرّض إلى التخريب والانتقام وهُجر لفترة من الزمن دامت حتّى العام 1830، تاريخ مجيء الرئيس أثناسيوس الذي قام بإعادة إحياء الدير.


هندسة الدير

دير البلمند، بمبانيه المنتشرة على مساحة تقارب خمسة آلاف متر مربّع، أشبه بقريّة صغيرة. ثمّة بابان قديمان في الجدارين الجنوبيّ والشرقيّ يؤدّيان إلى ساحة داخليّة مربّعة الشكل، تحدّها من الشمال كنيسة السيّدة ومن الغرب كنيسة القدّيس جاورجيوس، ومن الجنوب والشرق قاعات كبيرة ومخازن مقبّبة، وهناك درجان حجريّان يفضيان إلى الطابق العلويّ. يتبع مخطّط البناء النموذج الرهبانيّ بشكل دقيق، فهو محكم الإغلاق والكنيسة تقع في أبعد مكان عن المدخل الرئيس للدير.ويقع البلمند على تلّة مرتفعة مطلّة على طرابلس والساحل ما جعله يشذّ عن القاعدة على اتّبعها الرهبان السيسترسيّون، الذين بنوا أديارهم في الوديان الخصبة بعامّة. على الأرجح أنّ هذا الموقع الاستراتيجيّ للبلمند، قد تمّ اختياره بهدف تأمين الحماية ومراقبة الطريق الساحليّة.

تعود معظم أجزاء الطابق الأرضيّ إلى حقبة الدير السيسترسيّ، باستثناء بعض التعديلات التي أدخلت  لتدعيم حماية الدير، وهذا من مميّزات المؤسّسات السيسترسيّة أنّى وجدت. أبنية الدير المنتشرة على مساحة مربّعة الشكل تحوط بساحة مغلقة مكسوّة بالحجر الكلسيّ الأبيض بشكل متناسق وخالٍ من العناصر التزيينيّة. ذلك بأنّ الهندسة السيسترسيّة مطبوعة بالنظام الصارم عينه الذي يطغى على حياة الرهبان. فالدير يجب أن يعكس صورة المربّع الكامل الذي يمثّل أورشليم السماويّة. والمربّع هو الشكل الكامل الذي يرمز إلى الرقم أربعة، عدد الفضائل الجوهريّة، وعناصر الطبيعة وأنهار عدن والأناجيل. كما يذكّر المربّع، بالتعريف الرباعيّ لله الذي قدّمه القدّيس برنار دي كليرفو، مؤسّس الرهبنة السيسترسيّة، بقوله: "إنّه الطول والعرض والارتفاع والعمق"[4].

تشكّل كنيسة سيّدة البلمند الواقعة في الطرف الشماليّ للساحة المقفلة المحور الرئيس للدير. فهي تتألّف من صحن رئيس واحد يفضي في نهايته إلى هيكل كبير تحوط به غرفة كبيرة من كلّ جهة. قبّة الكنيسة الأسطوانيّة الشكل ترتكز بكلّيّتها على الجدران الخارجيّة الضخمة، التي تبلغ سماكتها حوالى مترين والخالية من أيّة زينة تمامًا، إلاّ من إفريز بسيط يمتدّ بمحاذاة قاعدة القبّة، ونافذة كبيرة ورديّة الشكل تعلو المدخل الغربيّ. ويدلّ حجم الكنيسة على أنّ جماعة رهبانيّة كثيرة العدد كانت تقيم في هذا الدير السيسترسيّ.

قبّة الجرس هي المعلَم الخارجيّ الأكثر روعة للدير. فهي مبنيّة على الطراز البروفنسيّ الغوطيّ، وهي الوحيدة في الشرق الأوسط التي تعود إلى العصر الوسيط. ترتفع هذه القبّة فوق القوس النصف دائريّ، شكلها مربّع وكلّ حافة من حوافّها مزيّنة بفتحة مقوّسة جميلة.

كان الرهبان يتنـزّهون في الفناء المغلق يقرأون الكلمة الإلهيّة ويتأمّلون بالمكان المقدس الذي يرمز إلى الخلق والفردوس المستعاد. وهذه الساحة المغلقة بأعمدتها المربّعة وقببها المبنيّة بشكل غير مصقول تنتمي إلى العصر الحديث، فلا يبقى من الآثار السيسترسيّة في هذا المكان سوى بعض الأجزاء الزخرفيّة.

إلى الشمال الشرقيّ من الفناء المغلق تقع القاعة الكبرى التي بنيت في القرن الثالث عشر، وهي بناء ضخم وصلب تفوق مساحته مساحة الكنيسة. وعلى الأرجح أنّ السيسترسيّين قد استعملوا هذه القاعة كمضيف للمسافرين، وفي الأحوال الطارئة كملجأ للمضطهدين. في القرن السابع عشر، حلّت محلّ القبّة الأساسيّة قبّة جديدة من طراز مشابه، ولكن على مستوى أدنى بحيث صارت النافذة الأنيقة الورديّة الشكل الواقعة في المدخل الغربيّ أقرب إلى القبّة.

بين القاعة الكبيرة والكنيسة توجد قاعة الاجتماع التي يلتئم فيها الرهبان، كلّ يوم حول رئيسهم، ليستمعوا إلى إرشاداته الأخلاقيّة والعمليّة، ويقرأوا مبادئ الشهادة أو قوانين الرهبنة السيسترسيّة. وفي القاعة قبّة نصفيّة ربّما كانت جزءًا من البناء الأصليّ؛ لكن على الأرجح أنّها أضيفت في القرن السابع عشر، عندما حوّل هذا البناء إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس. كان السيسترسيّون يدفنون في قاعة الاجتماع، وقد أشارت الحفريات الأثريّة إلى وجود أربعة أضرحة، لأربعة رؤساء للدير، لم تتعرّض لأيّ ضرّ.

إلى جنوب الفناء المغلق يقع المطبخ السيسترسيّ، وهو غرفة مستطيلة مزوّدة بمدخنة وأفران وتعلوها قبّة أسطوانيّة الشكل. يتّصل المطبخ بقاعة الطعام حيث يجتمع الرهبان مرّتين يوميًّا لتناول طعام قوامها الخبز والخضار وخالية من اللحم والزيت.

فقط نوافذ غرفة الطعام أصليّة؛ أمّا باقي البناء فيعود إلى القرن التاسع عشر وهو اليوم يشكّل مدخلاً للدير.

ثمّة أبنية سيسترسيّة أخرى، ومنها ثلاث غرف تتّصل بالمطبخ واثنتان قرب الكنيسة، وكلّها تستعمل كمستودعات وإسطبلات. هناك أيضًا غرفة أخرى واسعة معزولة تقع جنوب المطبخ ربّما كانت تستخدم كمستشفى وقاعة للحجّاج. كلّ هذه الغرف ثابتة البناء ومزوّدة بقبب أسطوانيّة وكوّات ضيّقة في الجدران.

قدّمت الحقبة الأرثوذكسيّة إضافات مهمّة إلى مباني الدير وأثاثه. فقد استعمل الرهبان الأرثوذكس حجارة البناء والأعمدة والعناصر الزخرفيّة السيسترسيّة لتشييد أقسام أخرى، فحوّلوا قاعة الاجتماع الرئيسة إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس، وجمّلوا كنيسة السيّدة بهيكل جديد وإيقونسطاس خشبيّ منحوت وإيقونات ثمينة وصلبان مزخرفة ومرسومة، ولوحات زخرفيّة وبلاط من الرخام الأبيض.

كما أضاف الرهبان ثلاثة أقسام جديدة إلى الدير هي الحناج الحلبيّ، والجناح البطريركيّ والمدرسة. وكلّ هذه الإضافات شُيّدت على مستوى الطابق الأوّل فوق الأبنية التي كانت قائمة. وقد تمّ تنسيق الأجزاء الجديدة بشكل جيّد بحيث استخدم الحجر الأبيض ذاته واتّبع أسلوب مشابه لبناء الأبواب والنوافذ والقبب.

بودِر ببناء الجناح الحلبيّ في العام 1652. وهو يقع بين الكنيسة وقاعة الاجتماع ويتألّف من قاعة واسعة تتّصل بالصوامع الرهبانيّة الثماني التي تستخدم اليوم لإيواء الضيوف. وتبعًا للأسلوب السيسترسيّ، فالعناصر الزخرفيّة قليلة جدًّا؛ ونلاحظ، إذا نظرنا انطلاقًا من الفناء المغلق، أنّ الجناح الحلبيّ يرتفع إلى جانب قاعة الاجتماع.

أمّا الجناح البطريركيّ فبدأ تشييده في العام 1711، وهو يمتدّ فوق القاعة الكبرى ومعظم قاعة الاجتماع. ولطالما استُخدم هذا الجناح كمركز إقامة مطران طرابلس والكورة وبيت ضيافة للبطريرك الأنطاكيّ. القسم الموجود فوق القاعة الكبرى يقسم إلى بهو ضيّق مزوّد بصومعة مقبّبة على كلّ من طرفيه؛ وثمّة شرفة مسقوفة تحتوي على قنطرة صغيرة مبنيّة من موادّ تعود إلى الدير القديم؛ وأخيرًا، قاعة العشاء الخاصّة بالمطران. القسم الموجود فوق القاعة الكبرى يتألّف من ممرّ مفتوح طويل يفضي في يمينه إلى أربع صوامع صغيرة يليها جناح كبير صالح للسكن يمتدّ على طابقين. وقد بني هذا الجزء في العام 1832، على يد رئيس الدير أثناسيوس، ليصبح أول مدرسة عربيّة للكهنة الأرثوذكس في البطريركية الأنطاكيّة.

هذه المدرسة التي شُيّدت بين الأعوام 1899 و1903 هي آخر جزء أضيف إلى مجمّع دير البلمند. وقد صُمّمت على نطاق كبير إذ أُريد لها أن تكون مدرسة داخليّة تستوعب ما يناهز الأربعين طالبًا وأستاذًا وموظّفًا. لذلك، استخدمت الأبنية التي تعود إلى العصر الوسيط، والواقعة إلى جنوب الساحة الداخليّة المغلقة، وهي المطبخ وقاعة الطعام وقاعة الحجاج والإسطبلات. وتألّفت المدرسة من قسم المنامة، قاعة طعام، مطبخ، قاعة للدراسة، قاعات للتدريس، قسم سكنيّ ومستودعات. وهذا البناء بكامله يُستخدم اليوم لسكن طلاّب السنة الأولى في معهد اللاهوت. واللافت أنّ سقف المدرسة القرميديّ الأحمر يشكل تناقضًا جميلاً مع بياض الحجر الذي يتكوّن منه الدير.

المخطوطات

المخطوطات المائة والسبع الموجودة في مركز القديس يوسف الدمشقي لترميم وحفظ المخطوطات والتابع لدير البلمند هي إرث ثمين تملكه البطريركيّة الأنطاكيّة. بدأ جمع المخطوطات مع إعادة ترميم الدير، في العام 1603، وتطوّر بعد ذلك بشكل مستمرّ رغم فقدان الكثير من المخطوطات التي قدّمت كهدايا والموجودة اليوم في مكتبات الغرب. كما سُرق عدد من المخطوطات إبّان الحرب الأهليّة اللبنانيّة ولكنهّا أعيدت إلى الدير في العام 1987، باستثناء الأناجيل المزخرفة الثلاثة. اثنان من هذه الأناجيل أنجزهما يوسف المصوّر الذي كان يعيش في حلب، أواخر القرن السابع عشر.

معظم أجزاء هذه المجموعة مدوّن باللغة العربيّة خلال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. كما تحتوي بعض المخطوطات من العصر الوسيط كتابات باللغة السريانيّة التي كانت شائعة الاستخدام، في أوساط الطائفة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، حتّى ذلك الحين. أمّا المخطوطات باللغة اليونانيّة فقليلة. وما يجعل هذه المجموعة ذات قيمة فائقة هو تصويرها وتوثيقها للحياة والفكر الأرثوذكسيّين، في أنطاكية، بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وتضمّ المجموعة 97 كتابًا ليتورجيًّا، و44 مخطوطة آبائيّة ولاهوتيّة، و22 سنكسارًا (حياة القدّيسين وعجائبهم)، كانت تُقرأ مختارات منها، خلال الاحتفالات الليتورجيّة، للاقتداء بإيمان القدّيسين وشهادتهم. كما تحوي المجموعة أربعة كتب مختلفة عن تاريخ الكنيسة وثلاث مخطوطات جداليّة. النصوص الكتابيّة تحتوي على كشكول (مجموعة من الملخّصات لكلّ سفر من أسفار الكتاب المقدّس) وخمسة أناجيل مزخرفة بالغة الأهمّيّة من القرن السابع عشر، سُرق منها ثلاثة ما تزال مفقودة حتى اليوم. المخطوطة الأقدم في المجموعة، هي نسخة من القرن الثالث عشر، عن رواية برلعام ويواصاف وتحوي تسعة رسومات توضح حياة هذين القدّيسين، وهي ذات أسلوب يدلّ على تفاعل فنّ رسم الإيقونات البيزنطيّ والسريانيّ مع الفنّ الإسلاميّ. أخيرًا، تحتوي مجموعة مخطوطات البلمند على مخطوطة مزخرفة للقانون الكنسيّ الأرثوذكسيّ (الناموس الشريف)، المدوّن بالعربيّة في نهاية القرن التاسع عشر، والمحتوي على إيقونات وكتابات خطّيّة عربيّة جميلة.

ما ساعد على القيام بنسخ المخطوطات وترجمتها ومراجعتها وتنقيحها، هو الدعم المعنويّ وغالبًا الماليّ، الذي قدّمه لهذا العمل، رؤساء دير البلمند الذين تُطلق عليهم تسمية "المحسنين" في البيانات التي كانت تلحق عادة بنهاية المخطوطات. كمن الهدف الرسميّ من هذه الملاحق، في تسجيل تاريخ المخطوطة، وهذا يدلّ على التعاون بين الأديار الأرثوذكسيّة، في المنطقة، بهدف الحفاظ على تراثها. إضافة إلى  ذلك تكشف هذه الملاحق الكثير ممّا يتعلّق بتاريخ البلمند خلال الحقبة الأرثوذكسيّة: تطوره المعماريّ، استضافته الزوّار، ودوره كملجأ للمشرّدين خلال الحروب، أو لدى انتشار الأوبئة، أو أثناء حدوث الزلازل.

الإيقونات والموجودات الثمينة

كان البلمند، في مختلف مراحل وجوده على مدى أربعمائة سنة، مركزًا للإيمان الأرثوذكسيّ في الشرق الأدنى، وبهذا اكتسب دير البلمند تراثًا ضخمًا من الفنّ الكنسيّ. فكلّ من كنيستيه مزوّد بإيقونسطاس فخم. الإيقونسطاس الموجود في كنيسة السيّدة مصنوع من خشب الجوز الداكن اللمّاع، وقد حُفر في مقدونيا في أواخر القرن السابع عشر. وكنيسة القدّيس جاورجيوس تملك إيقونسطاسًا سوريّ الصنع من الرخام الأسود والأبيض.

ترتصف على الإيقونسطاس والجدران في كلا الكنيستين مجموعة من الإيقونات رسمت بمعظمها في حلب، بين آخر القرن الثامن عشر وبدء القرن التاسع عشر، وفي القدس، في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر. وتقدّم هذه الإيقونات عرضًا رائعًا لتاريخ رسم الإيقونات. المثال الرائع على هذا التاريخ الغنيّ، هو إيقونة العذراء "المرشدة إلى الطريق" العجائبيّة، والتي رسمت في السنة 1318، ولكنّ عددًا كبيرًا من الخبراء يعتقد أنّها تعود إلى القرن العاشر، وربّما كانت أقدم إيقونة في الشرق الأوسط. هذه الإيقونة محفوظة اليوم إلى يسار الإيقونسطاس في كنيسة السيّدة، بعد ترميمها على يد ميخائيل الكريتيّ في بدء القرن التاسع عشر.

للإيقونات دور محوريّ في الحياة الرهبانيّة إذ تساعد على التأمّل والصلاة، وتفتح نافذة إلى العالم الآخر، يعاين المرء عبرها الوجود المتسامي. يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ إنّ "إيقونة المسيح هي المسيح نفسه، وإيقونة القدّيس هي القدّيس نفسه؛ فالوجه والمجد غير منفصلين، لكنّ المجد يغدو صفة مميّزة يكتسبها موضوع الأيقونة. لذلك تُرسم هالة القداسة، وهي رمز النور غير المخلوق، فوق رؤوس جميع القدّيسين والأشخاص الإلهيّين. أمّا الهالات التي تُرسم فوق رأس المسيح فتحمل علامة الصليب. ثمّة جانب مهمّ يعبّر عن القداسة والألوهة، وهو هدوء الأشخاص ووضعيّاتهم الرسميّة ونظراتهم التي توحي بالتجرّد عن هذا العالم.

بالإضافة إلى ذلك، للإيقونات أيضًا وظيفة تعليميّة، عبر تصويرها مشاهد من حياة المسيح والقدّيسين: "البصر يؤدّي إلى الإيمان أكثر من السمع؛ فالذي تنظره العين يتّخذ تعبيرًا أعمق في النفس، ويتأصّل عبر الإدراك الحسّيّ في الأحاسيس"[5]. على سبيل المثال، تحتوي إيقونة القدّيسين سمعان العموديّ وسمعان العموديّ الحديث عشر صور صغيرة في القاعدة تبيّن العجائب التي اجترحها هذان القدّيسان. وإيقونة الدينونة الأخيرة تعبّر بألوان مختلفة عن ممالك الكون الأربع: الجنّة الزرقاء، الفردوس الأبيض، الأرض الحمراء، والجحيم السوداء. مشاهد الجحيم غنّيّة بالتفاصيل البديعة المستوحاة مباشرة من عظات القدّيس أفرام، التي توجد بعض النسخ عنها في البلمند، وتصحب كلّ مشهد عبارة تفسيريّة مستلّة من الإنجيل. وعلى النحو ذاته تعبّر إيقونة الرقاد، المعلّقة على حائط كنيسة السيّدة، بروعة عن العقيدة الأرثوذكسيّة المرتبطة بوالدة الإله. لكنّ هاتين الإيقونتين العظيمتين سُرقتا إبّان الحرب الأهليّة اللبنانيّة ولم تتمّ إعادتهما إلى اليوم.

أخيرًا، تؤدّي الإيقونات دورًا مركزيًّا في الليتورجيا الأرثوذكسيّة. فخلال الخدم الليتورجيّة يخرج الكاهن من الباب الملوكيّ مرّات عدّة متوجّهًا إلى الإيقونات بالطلبات وقارئًا الصلوات، كما يبخّرها ويباركها. بالإضافة إلى ذلك، تحمل الإيقونات خلال التطواف الكنسيّ وبخاصّة في الأحد الأوّل من الصوم المعروف بأحد الأرثوذكسيّة أو أحد الإيقونات. في البلمند كما في كلّ كنيسة أخرى، تتبع الإيقونات المعلّقة على الإيقونسطاس الترتيب التالي: والدة الإله إلى يمين الباب الملوكيّ والمسيح إلى يساره. إلى يمين إيقونة والدة الإله إيقونة شفيع الكنيسة وفي حالة كنيسة سيّدة البلمند، فإنّ هذا المكان تحتلّه إيقونة رقاد السيّدة.

الكتابات التي نجدها على الإيقونات تذكر اسم راسم الإيقونة، رئيس الدير، والمتبرّعين. فالأفراد والعائلات يقدّمون الإيقونات إلى الدير كملكيّة وقف، وذلك من أجل راحة نفوس الموتى أو من أجل خلاص نفوس المتبرّعين. معظم الإيقونات الحلبيّة التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر وبدء القرن الثامن عشر، هي من رسم نعمة اللّه المصوّر الذي كان يشرف على عمله الكاهن فرح، رئيس دير البلمند في ذلك الوقت. أمّا الإيقونات الفلسطينيّة من القرن التاسع عشر فرسمها المعلّم إسحق نقولا الأورشليميّ خلال رئاسة الأب برثانيوس للدير. وثمّة إيقونات أخرى من روسيا ترقى إلى آخر القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين، والجدير بالذكر أنّ هذه الحقبة تميّزت بتبادل دينيّ وثقافيّ كثيف بين بطريركيّة أنطاكيّة وبطريركيّة موسكو.

حافظ راسمو الإيقونات على التقاليد والقواعد البيزنطيّة الأساسيّة لرسم الإيقونات، التي تحدّد كيفيّة تصوير كلّ موضوع، والعناصر المميّزة لكلّ سرّ وشخصيّة. مع ذلك، كان للمجتمع المدنيّ العثمانيّ في الشرق الأدنى تأثير قويّ في راسمي الإيقونات، في حلب والقدس، وذلك في ثلاث نواحٍ محدّدة. أوّلاً، تعابير وجوه القدّيسين، وملابسهم والحُلي أو مستلزمات الزينة هي شرقيّة بامتياز. ثانيًا، الزخرفة سخيّة وفخمة وهي غنيّة بالتفاصيل. لا يترك راسمو الإيقونات أيّ مساحات فارغة، وعناصرهم التزيينيّة تتبع قواعد الفنّ الإسلاميّ الدقيقة بنماذجه التقليديّة، أيّ الأزهار والنبات والأشكال الهندسيّة. أخيرًا، الكتابات العربيّة على الإيقونات بمعظمها طويلة وسرديّة من حيث الشكل. في جميع أنحاء الشرق المسيحيّ نجد أنّ الإيقونات الملكيّة تحوي النصوص الأغزر والأكثر تفصيلاً، وذلك كتجسيد للدور التعليميّ للإيقونة. وإلى جانب سلسلة الإهداءات الطويلة، ثمّة مقاطع من سير القدّيسين ومختارات من الكتاب المقدّس.

يتضمّن الإرث الفنّيّ للبلمند أيضًا مجموعة من الأدوات الليتورجيّة القيّمة والجميلة، من بينها أناجيل يونانيّة مطبوعة مجلّدة بأغلفة فضّيّة محفورة؛ وكؤوس مناولة من القرن الثامن عشر عليها زخرفات فضّيّة ومرصّعة بالجواهر؛ وصلبان فضّيّة أو ذهبيّة للتطواف؛ وستّة صلبان خشبيّة أصغر حجمًا مرصعة بالذهب أو الفضّة، على الأرجح أنّها صنعت في جبل آثوس في القرن الثامن عشر. لكنّ الأجمل من ذلك كلّه ثياب الكهنة المحاكة من الساتان أو المخمل، والمطرّزة بالفضّة والذهب والحرير. وقد طُرّزت عليها بأناقة زخارف العربسات وبعض المشاهد والأشخاص.


المصدر: كتاب "أديار الكرسي الأنطاكي"، منشورات جامعة البلمند، 2007.

 



[1] موندريل، هنري. رحلة من حلب إلى القدس، ص 18-9.

[2] مختارات من الرسائل المفيدة  التي دوّنتها الإرساليّات الأجنبيّة، وتسبقها لوائح للبلد الذي عملت فيه الإرساليّة، 23.

[3] مسعى انتهجته الإرساليات اللاتينيّة لإلحاق مسيحيّي الشرق بسلطة بابا روما، نشأت بنتيجتها طوائف الروم الكاثوليك والسريان الكاثوليك وغيرها (حاشية الناشر).

[4] دوبي، جورج. القدّيس برنار والفنّ السيسترسيّ، 13

[5]  القدّيس نيكيفوروس في المجمع المسكونيّ السابع العام 787، ورد هذا القول في س. عجميان، الإيقونات الملكيّة، 32.