كُلِّ إنسانٍ يَقُولُ إنّ كَنزي هو في الرّبّ



2013-03-17

أحد الغفران - مرفع الجبن

 

باسم الآب والأبن والروح القدس. الإله الواحد. آمين. 

 

مرفع الجبنيا أحبّة، نحن اليوم في أحد مرفع الجبن بحسب التقليد الأرثوذكسيّ. وغداً الإثنين هو اليومُ الأوّلُ في الصيام الأربعينيّ الذي يُهيّئُنا ليوم الفصح المجيد. 


أودُّ أن أُكَلِّمَكُم اليومَ عن الصّوم. لقد رتّبَ آباؤنا القدّيسون فترةً إعداديّةً تسبقُ الصّومَ الكبير،ابتداءً من الفرّيسيّ والعشّار إلى اليوم. المقطعُ الإنجيلُّ الّذي سمعناهُ اليومَ ينتهي بقولِ الرّبّ: "حيثُ تَكونُ كُنُوزُكُمْ، هُناكَ يَكُونُ قَلبُكُم".


الصّومُ هُوَ هذا الإقرارُ مِنّي أنا الإنسان، مِن كُلِّ إنسانٍ يَقُولُ إنّ كَنزي هو في الرّبّ. ولذلك فإنّ قلبي هو للرّبّ. هذا هو الصيام، هذا الانشدادُ البشريُّ نحوَ العِزّةِ الإلهيّة، والاِنسلاخُ عن كُلِّ ما هو قديمٌ في حياتِنا الباطلة، وفي حياة العَتاقة، وفي حياة الظلمة. وهذه هي المسيرةُ نحو السيّد، أبي الأنوار، الذي هو الطريق والحقُّ والحياة. هذا هو الصيام.

ولأننا نؤمن أنّ الإنسانَ يشتركُ في هذه الحياةِ الإلهيّة، لا بالنفسِ والروحِ والعقلِ وحسب، بل بالجسدِ أيضًا، لهذا نعرب عن انشدادِنا نحو الله في صيامنا الذي نُعرِبُ له فيه عن محبّتِنا. لهذا يصومُ الإنسانُ بالجسدِ عن المأكولاتِ مِن لَحمٍ وَجُبنٍ ومُشتَقّاتِها وما إلى ذلك بحسب ترتيب آبائنا القدّيسين. ويصومُ أيضاً بالنفس عن كلّ ما هو باطل. وهكذا يكون الصيام هو هذه المسيرة التي يريد فيها الإنسان أن يقدِّمَ ذاتَهُ، رُوحاً ونفساً وجسداً، أي أن يقدّمَ ذاتَه كلّيّاً. ذلك أنّنا، لكثرةِ محبّتِنا للرّبّ، لا نقدِّمُ لَهُ جزءًا ونَحجُبُ عنهُ آخَر، بل نريد أن نقدّمَ له ذَواتِنا كُلَّها، وكلَّ كِيانِنا بالنفس والجسد. هذه المسيرةُ النُّورانيّةُ شديدة، ولكنّها تَشُدُّنا إلى قيامةِ السيّد، وهذا ما نُرَنِّمُهُ أيضاً في هذا اليوم الذي يُدخِلُنا إلى الصّيام. فمَثَلاً رتَّلْنا في صلاةِ السَّحَرِ اليومَ، قبلَ البَدْءِ بالقدّاسِ الإلهيّ، تراتيلَ جميلةً وهامّةً جدّاً، وتفتحُ أعينَ ذِهنِنا على معاني الصّيامِ الأساسيّة، حيثُ يقول المُرَنِّم: "لقد انفتحَ ميدانُ الفضائل، فَلِجُوا (أي ادخُلُوا) أيّها المُؤثِرُونَ الجِهاد (أي يا مُحِبِّي الجهاد)، متَمنطِقينَ بِحُبِّها والصّومِ الحَسَن. فَلْنَتَدَرَّعْ بالصّليب، وَلْنُبارِزِ الشّيطانَ مُحارِبِين، مُمتَلِكِينَ الإيمانَ كَسُورٍ وَالصّلاةَ كَدِرْعٍ وَالصَّدَقَةَ (أي عَمَلَ الإحسان) كَخُوذَة، وَعِوَضَ الحُسامِ  الباتِر (أي السّيف القاطع)، فَلْنَمْتَلِكِ الصِّيامَ الذي يَبتُرُ مِنَ القَلبِ كُلَّ رَذِيلة". وتقولُ الترنيمةُ التي تَليها: "أيّها التّائقونَ إلى سُكنى الفردوس (ما ألطَفَ هذا التّعبيرَ عن إيمانِنا وارتباطِنا بِرَبِّنا، أنّنا نحن بَشَرٌ نَتُوقُ إلى سُكْنى الفردوس) هلمَّ نبتعد عن المآكلِ غيرِ النّافعة... يا أيّها الرّاغبون في  معاينةِ الله، هلمّ نصوم". تأمّلوا أيضًا: "لِنَنظُرِ الجمالَ العُلويَّ حيثُ جماهيرُ الملائكةِ يسبحّونَ السّيّد". وأيضًا: "قد وافى الزّمانُ الّذي هو بَدءُ الجهاداتِ الرّوحيّة والغلبة على الشّياطين والسلاحُ الكاملُ للإمساك، جمالُ الملائكة..." إلى أن ينتهي بِالقَول: "فيا رَبُّ، أَهِّلْنا بالصومِ أن نسجدَ لآلامِكَ المقدّسةِ ولِقيامتِكَ، بما أنّكَ محبٌّ لِلبشر". هذا هو الصوم، الذي نعبّر فيه عن عِشقِنا للرّبّ، وعن إيمانِنا بِدَربِ الصّليب، وأنّنا نريدُ أن نَعبُرَ هذا الدرب، دربَ الصّليب، لأنّها تُفضِي بها إلى القيامة.

ولهذا، يَرِدُ ذِكرُ التّوبَةِ في صلواتِ هذه الفترة بكثرة، ويكون ذكرُها مقرونًا بذكر النّور؛ لأنّ التّوبةَ هي مسيرةُ النّور. هي دعوةٌ للإنسانِ أن ينسلخَ عن إنسانِه العتيقِ الباطل، الذي تسيطر عليه أهواؤه. أن يُغادِرَ الغضب، الشّراهة، الكبرياء، حبَّ التسلُّط، وَكلّ ما لا يرضِي الله، لا سيّما الأنانية وعدم التّفكير بالإنسان الآخّر. أمّا الصوم فهو هذه المسيرة التي يعود فيها الإنسان إلى نفسه ويُذَكّرُ ذاتَه بأنَّه عندما خرج من جرن المعمودية، من رَحِمِ الكنيسة، قد لَبِسَ المسيح" "انتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم". والصّومُ يندرجُ في هذا الإطار، بأنّنا نريدُ أن نَلبَسَ المسيحَ الذي أخذناه في يوم معموديّتِنا. وهذا الأمر يتحقّق، هذه الصَّيرُورَةُ تَتِمُّ، عندما يسعى كلُّ واحد منا هذا السّعيَ الحَسَنَ بأن ينسلخَ عن أعمال الظلمة، عن القَتامة، عن البشاعة والقتل والغضب، وكل ما لا يليق بالمحبّة، ويلتصقَ بوصيّةِ الرّبّ التي قوامُها وأساسها، كما يقول الإنجيل: "الله محبّة".

طرد آدم وحواء من الفردوس ولذا، ذكَّرَتْنا الكنيسةُ يومَ أحد الفرّيسيّ والعشّار بالتواضع، وفي أحدِ الابنِ الشاطر بالتّوبة، وفي الأحد الماضي بأعمال الرحمة المسيحيّة، من خلالِ إنجيلِ الدّينونة الّذي يُتَوَّجُ بِقَولِ الرَّبّ: "كُلُّ ما فعلتُموه /أو لم تفعلوه لهؤلاء إخوتي الصّغار، فبي قد فعلتموه /أو لم تفعلوه".

هكذا يتجسَّدُ إيمانُنا وحبُّنا لِرَبِّنا، بأنْ نَتنقّى ونتطهّر، وأن يَسلُكَ كلُّ واحدٍ مِنّا كابنٍ للنّور. يقولُ الرّسول: "اسلُكوا كَعُقَلاءَ ولا كَجُهَلاء". أين الجَهلُ وأين الحكمةُ؟ الجَهلُ هُوَ عندما يخضع الإنسانُ لأهوائِه ومزاجاتِه ولِسُلطةِ أهلِ هذا الدّهر. آنذاك يكون الواحد في عتمةٍ وكأنَّ المسيحَ يسوعَ لَم يَأتِ. أمّا الحكمةُ فهي أن يَسلُكَ الواحدُ مِنّا بحسبِ الوصيّةِ الإلهيّة الّتي في الإنجيل، وأنْ يَسعى أن يتحوّلَ هو إلى إنجيلٍ مفتوح، يَقرأُ الناسُ فيه أعمالَهُ الصّالحة، ويمجِّدونَ الآبَ الذي في السموات.

اليوم يا أحبة، ونحن على أبوابِ الصوم، تدعونا الكنيسةُ أن نكون هؤلاءِ البَشَرَ الجُدُدَ بنفوسِهم وقُلُوبِهم وأذهانِهم وطريقةِ تفكيرِهم، ماسِحِينَ كلَّ شيءٍ في حياتِهم بِلَونِ السيّدِ المسيحِ وطَعمِه. لهذا يقول الرّسول: "إنْ أَكَلْنا أو شَرِبْنا فَلِلرَّبِّ نحنُ". فيما نحن اليوم شاخصون إلى السيد الذي قام من بين الأموات والذي يدعونا أن نكون أبناء القيامة لا أبناءَ الموتِ والجهلِ والظلمة، نحن مدعوّونَ إلى أن نتجدّدَ ونقومَ من قُبُورِ سَقَطاتِنا وخطايانا، إلى الصّلاحِ والفضيلةِ والذهنِ النيّر.. إلى القلبِ المنفتحِ بالمحبّةِ على كُلِّ إنسان. وآنذاك يا أحبّة، نَقومُ جميعاً، ويقومُ المجتمع، ويقومُ الوطن، وكُلُّ مَن هو بحاجة إلى قيامة.

كُلُّنا بحاجةٍ إلى أن نعيشَ إخوةً في سلام ومحبّةٍ وعَيشٍ مشترَك. ولكنّ هذا يستدعي أن يُدرِكَ كُلُّ واحدٍ مِنّا أنّ الصّيامَ الّذي نحن مُقبِلُونَ عليه ليس مجرّدَ امتناعٍ عن أكلِ اللُّحُوم، واكتفاءٍ بأكلِ الحبوب، بل يتخطّى ذلك إلى الاشتراكِ في هذه المسيرة الروحية نفساً وجسداً، بحيثُ يعَبِّرُ الجَسَدُ بطريقةٍ ما عن العشقِ الإلهيّ الّذي فِينا، فيما تُعبِرُ النّفسُ بطريقةٍ أخرى. وهكذا تكون أنتَ نفساً وجسداً تسيرُ هذه المسيرةَ النّورانيّة، فتُصبحُ بذِهنِكَ وقلبِكَ وَكُلِّ حواسِّكَ وأعضائِكَ تتصرّفُ كما في النّورِ وليس كما في الظّلام.
أعطانا الرّبُّ اليدَ لِنَمُدَّها، لِتَكُونَ أداةَ خيرٍ وتعامُلٍ في الخير مع الإنسانِ الآخَر، وليس كي تُسيءَ إلى الآخر. وأعطانا النّظرَ والسَّمْعَ وَكُلَّ الحّواسِّ كي نستلهمَ ونستشرفَ مِن خلالِها كُلَّ ما هُوَ صالِحٌ، كي تكونَ نَظَراتُنا نَظَراتٍ مُحِبّة، كي تكونَ كلماتُنا كلماتٍ طيّبة، كي يكونَ كُلُّ شيءٍ فينا من معدنِ المسيح، ومن نور المسيح. ونحن في الصيام نسير هذه المسيرة كي نتجدد من الداخل فنصبح بشراً جدداً على شاكلة ربّنا، أدواتٍ للخير وأصواتاً للحقّ. والحقيقة التي نحملُها هي المحبّة، كلمةُ الرّبّ التي يريدُها للبشرِ جميعاً. لقدِ افتدانا بدمه الكريم، وقام من بين الأموات ليدوس الموتَ بموتِه، ولِيَكونَ خلاصاً لجميع الناس.

صلواتي إليه أن يقوّيَنا جميعاً، وَيُساعِدَنا لكي نتجدّدَ، وَنَعِيَ أنّه بالقِيَمِ والأخلاقِ والفضيلةِ تقومُ حياتُنا مع بعضِنا البعض، وليس على أيّةِ مبادئَ أو أُسُسٍ أُخرى.
فَلْيُعطِنا الرّبُّ الإلهُ أن نُدرِكَ هذا الأمر، وأن نسعى كي نحياه، وأن نُمَلِّكَ الربَّ على عرش قلوبنا. فآنذاك نتقدّسُ ونصبحُ شهادةَ تقديسٍ وحياة، شهادةً لِكُلِّ العالَم، فيتبارك الرّبُّ الممجَّدُ والمُبارَكُ إلى الأبد. آمين.